ظلت بلادنا التي لم تحظ بأي تحرك ثوري خلافا لمعظم الأمم خلال العصر الحديث، تعاني المشاكل نفسها التي كانت مطروحة ما قبل الحداثة وقيام الدولة المركزية، القضايا ذاتها والمعاناة نفسها ، الرق، القبلية، طبيعة ملكية الأرض، حرية المرأة، اللغة، الهوية، لم نكن في يوم من الأيام بحاجة إلى حزب ثوري ، إن حاجتنا الماسة في كل مرحلة من تاريخنا كانت إلى حزب شخصي يصون مكتسبات الحاكم وسلطته، وتنتفي الحاجة إليه كلما زال ذلك العهد ليبدأ البحث عن حزب جديد يعزز سلطان القادم ويعلي من شأنه وهكذا..
ورغم العدد الكبير من الانقلابات التي عرفتها بلادنا، فان أي منها لم يدعي الثورية كما أن أيا من أنصارها المتحمسين لم ينسب إليها شيء من ذلك، لتراوحت بين الإنقاذ والتصحيح والتغيير..
غير أن أمرا ما ميز الحركة الأخيرة للجيش في 06/08/2008، فهي وإن تبرأت من أن توصف بالانقلاب أحرى أن تدعي الثورية، – ورغم ما راود النخب الوطنية التي واكبت كل هذا التطور ومن يومه الأول ولا تزال متشبثة باللحاق به رغم ما نالها من نصب الهرولة كل هذا الزمن الممتد، وطيلة عمر مهني كامل، بادرت هذه الحركة وفي انفصال لافت مع المسارب التي اتسقت فيها الحركات المشابهة في تجلياتها السالفة إلى اتخاذ إجراءات شديدة الجذرية على مستويين:
أولهما: خطابي نظري؛ تمثل في إدخال مفردات واصطلاحات جديدة للحياة السياسية، كان الوقوع فيها من أفدح الغلط اللغوي ونبوا عن وسط القول وقصده، وهكذا فقد برزت مصطلحات جديدة إلى ساحة القول لدى النخبة وذلك من قبيل تجديد الطبقة السياسية: إنصاف المهمشين ، موريتانيا الجديدة ، التنمية المتوازنة ، محاربة الفساد……
ثانيهما: عملي واقعي؛ تجلى في عزوف القيادة الجديدة عن الأسلوب الذي درجت عليه العهود السياسية السابقة في سبيل تجنيد الرأي العام المحلي والدعم الخارجي لخياراتها، فعلى الصعيد المحلي ومباشرة بعد التغيير أخذت القرارات التصحيحية تتوالى وفي كل نواحي الحياة العامة رغم ما قد يرافق هذه القرارات في بعض الأحيان من تذمر خاصة في بعض الأوساط صاحبة التأثير، وبنفس التحمس انخرط البلد في سياق جديد للتعامل مع شركائه وأصدقائه الأجانب، وتحولت بذلك نظرة الخشية والتوجس التي وصمت علاقاتنا بمختلف تلك الأطراف إلى النقيض فأخذت المبادرات الملفتة تتوالى، بالرغم مما قد تنطوي عليه هي الأخرى من محاذير.
حينها راهنت طبقتنا السياسية بطرفيها على قصر النفس وحدثت ذاتها بان الأمر قد لا يعدو حماسة تعوزها الأناة والخبرة وأنها لا تلبث أن تذهب مع أول اختبار ليعود الحال كما عهد الجميع…
لقد كان انصرام الموسم الانتخابي وما نجم عنه بالتالي من حسم لمسألة الشرعية الدستورية على المستويين المحلي والخارجي ، حسب ما راهنت عليه طبقتنا السياسية مناسبة لوقفة لإعادة تحديد المسار بما يقتضيه ذلك من إعادة انتشار لتشكيلات هذه الطبقة وفقا للدور المنوط تقليديا بكل طرف- إن دعما أو معارضة – مع حساب العائد المتأتي وفقا لحجم الدور والقدرة على إنفاذه… بحيث تتم عملية تخليق جديد للعبة تسيير الشأن العام وفق ما جرى به العمل منذ سنوات الاستقلال الأولى إلى التاريخ المنوه عنه فيما سلف، غير أن الجميع ومن كلا المعسكرين قد اسقط في أيديهم….
لقد كان السيد محمد ولد عبد العزيز يعني فعلا الأهداف والتوجهات التي حددها لنفسه من اليوم الأول، وأعاد التأكيد عليها خلال حملته الانتخابية… بدأ الجميع يفيقون على حقيقة جديدة… إن المسألة أعمق بكثير مما توهم البعض من أنها سعي لإقناع العامة فقط، ومن أن أحلام المتمرسين من هؤلاء بالقدرة على إقناع الرجل بتغيير النهج من بعدما يتم تصحصح الأوضاع، كانت أقرب إلى الوهم…
إن اللعبة تتم صياغتها من جديد .. هذا ما بدأ يتكشف للكل وان بعد حين، لقد كان إعلان الرئيس الجديد في خطاب التنصيب خال من كل لوثة أو لبس… لقد أعلنها بكل جلاء، إن طرفي العقد ليسا الرئيس ومن شغل المنصة الشرفية من كبار الشخصيات وحاملي الأصوات، كلا.. إن الصيغة الجديدة للعقد قائمة على أن التزام الرئيس هو لكل الذين خرجوا للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع في 18/07/2009 ، التزام مباشر وعقد معلن وفقا لبرنامج محدد، تتم المحاسبة في الموعد الانتخابي القادم على أساسه… لا مجال إذا للوساطة والسمسرة في هذه العملية …. كم كانت خيبة عظيمة لمن راهن على نسخة جديدة من صيغتنا الأثيرة في الحكم وفي الحياة القائمة على النيابة عن الجماهير في كل شيء..
وهكذا وتدريجيا بدأ السعي من قبل هؤلاء لإرباك وإنهاك الرجل … بعد ما عجزوا عن تغيير توجهه قصد النهج الذي مردوا عليه …
إن خطتهم الحالية تقوم على إعاقة الهياكل الداعمة له من الداخل، حيث لاحظ أغلب المتتبعين الصيغة التي أكمل بها بناء الحزب الذي نعلم حجم الانتظارات التي عقدت عليه، حيث كان التطلع هو العمل لإنشاء حزب حرفي قادر على تجسيد الأفكار الثورية التي يعمل الرجل على تثبيتها في بيئتنا غير المواتية وكذا الدفاع عنها فيما بعد.. وقد حققت هذه الخطة نتائج ظاهرة على هذا المستوى، حيث أدت الصيغ التي اعتمدت لتشكيل الهيئات القيادية للحزب إلى خلق جو من اليأس المبكر لدى كثير من الحالمين صدقا بإمكانية انجاز الرؤى التي يطرحها هذا الرئيس… لقد تم الانتقال بعد ذلك إلى السعي إلى خلق وإدامة حالة من التهييج الدائم للشارع، وذلك لمشاغلة الحكومة وصرفها عن التركيز على إكمال تنفيذ خطتها التنموية أو تأخير ذلك في أقل الأحوال.. كما يتم السعي من خلال ذلك إلى التغطية على الانجازات اليومية التي تتحقق في أكثر من ميدان… بل إن انجازات تنموية كبرى كانت تعتبر إلى وقت قريب من المستحيلات على التخيل، تم تصويرها بما يقلب حقيقتها الواقعية إلى مجرد أمر عادي لا قيمة له في أحسن الـأحول، هذا إذا لم يتم العمل على إظهارها من باب الخسارة الوطنية..
إن النفس الثوري الذي يحمله هذا الرجل، يزداد مع شراسة الحملات ضده وتقدم نفاذه على الأرض صدقية وواقعية … غير أن الدفاع عنه وسد الباب أمام المحاولات المستميتة للعودة بنا إلى الوراء تتأكد مصيريته بالنسبة للقوى الشابة الطامحة محقة إلى بناء وطن للجميع قائم على قيم الإنصاف والمساواة والتقدم…