أزويرات – الربيع ولد ادوم
بقامته الطويلة يكاد يكون الشيخ ولد عبد الله ولد أحمد نف عميد الجرنالية، الدعامة الوحيدة لبيت بسيط وسط مدينة زويرات يشكل مكتبا لاتحاد العمال الموريتانيين..يلجأ إليه عمال “الجرنالية” لرفع الشكايات والقصص الأليمة، ومتابعة ملفاتهم أمام القضاء وملفات التأمين الصحي وتسجيل الإصابات التي يتعرضون لها أثناء تشغيلهم للماكينات التي لا وفاء لها حيث لا تلبث أن تطحن أطرافهم عندما يفقدون تركيزهم للحظة واحدة.
يعود ولد أحمد من عمله في آليات تنظيف النحاس قبل ان يبدأ جولة طويلة في ارجاء المدينة.. في رحلته يمر بمنازل كثيرة.. لعمال فقدوا اطرافهم او اسنانهم او عائلات ممن فقدوا عاملا في حادث من حوادث العمل المريعة.
في مدينة “ازويرات” أرض المناجم والثروة حيث تلتقي أحلام الوافدين وسكان الأصل في صناعة الحياة من قلب الجبال، وجلب الخير من عمق الانفجارات..واستخراج المعادن التي تشحن الى العاصمة الاقتصاد نواذيبو.
هنا تشتهر قصص “الجرنالية”.. انهم عمال الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم) غير الرسميين الذين يعملون عن طريق شركات وسيطة ويشرفون على مناطق الغليان والماكينات العملاقة والصغيرة على حد سواء، حيث يكونون في مكان الخطر لحظة استخراج ثروة تفخر بها موريتانيا.
أصبح وجه “عميد الجرناليه” كما لو كان تمثالا للعامل المجهول الذي يقضي حياته بحثا قوت يومه ويفقر لتغتني دولته، وجه عمال المناجم المشغولين حتى عن المطالبة بحقوقهم.
وجد الرجل نفسه ذات يوم في مواجهة الموت، عندما أمسكت الماكينة التي يشرف عليها لثامه الذي يتخذه قناعا ضد التلوث..شعر بالخطر وكاد يرى الموت، وجعلته الإصابة، يمتثل أمامه صور عشرات العمال الذين تابع ملفاتهم وسمع قصصهم.. واحس بانه مشلول عن الحركة، لكنه تخلص من لثامه بسرعة، وعندما عاد إلى ابناءه الستة كان يحتضنهم وهولا يصدق انه لم يفقد يدا أو رجلا أو تطحنه ماكينة لا تفرق بين المعادن والبشر..هكذا يحكي الرجل قصته التي يراها تجسيدا لحالة آلاف العمال الذين يتعايشون مع الرعب من الحديد.
يلقي رجل “الجرناليه” الاول تحية على العمال أثناء سيره في المدينة العمالية بامتياز، وفي كل مكان من ازويرات يتوقف سائقو سنيم لعميدهم الذس ينشط في المباحثات مع إدارة سنيم ورجال الأعمال من ملاك الشركات الوسيطة لحل المشاكل العالقة لنقله الى أي مكان يريده، لكنه بقدر ما يحبهم جميعا فإنه –حسب تعبيره- يأسف للواقع الذي تعيشه طبقة “الجرنالية الكادحين” ويأمل أن يجد يوما ما فرصة لتحقيق المطالب النقابية التي تتغير كل عام بحسب المستجدات.
مطالبه ومطالب مكتبه تتمثل في توفير التأمين الصحي ومتابعة افضل لضحايا الاصابات المهنية وانهاء عمل المقاولين كوسطاء لتوظيف “الجرناليه” وتحمل الشركة بشكل مباشر لشؤون عمالها والقيام بتقارير ذات مصداقية حول حجم التلوث الذي تعاني منه المدينة وتوفير السكن والماء والكهرباء لعمال “يدفعون دماءهم تماما كالجنود لتحقيق الرفاه والأمن الاقتصادي”؛ بحسب تعبيره.
سيلوم ولد امبارك سائق يعمل لصالح الشركة الوطنية للصناعة والمعادن (سنيم) واحد من الذين انتخبوا ولد احمد نف عام 2010 ، وبعدها توفي مع بداية العام الجاري بعد اصابته بما يعتقد النقابي ولد احمد نف وزملاؤه انه تلوث معدني.
وتؤكد أرملة ولد أمبارك اصابته عدة مرات قبل وفاته بأمراض صدرية يتعافى منها أحيانا ويعاود عمله لإعالة أبنائه التسعة الذين لا يصدقون انه مات لحد الساعة ولا يعولون على تعويضات كبيرة قد تضمن مستقبلهم بسبب ما يصفه عمال الجنالية بالنظام المعقد الذي ينتهجه وسطاء الشركة المنجمية.
وقف الراحل “سيلوم” أمام الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز مطالبا بتسوية وضعية 3500 عامل يخضعون “لهذا النظام القاسي” في واحدة من مناطق الثروة.. لكن سيلوم –على الارجح- لن يستفيد من هذا النظام بعد وفاته لكن وضعية ابنائه تبقى صعبة وهم في انتظار المجهول.
سالم ولد الحسن هو رجل آخر في الستين من العمر واحد من بين عشرات الضحايا، حطم بساط متحرك لنقل المعادن ذراعه اليسرى في العام 1982 ويتقاضى اليوم تعويضا يتمثل في 9000 اوقية كل ثلاثة اشهر.. ويعمل حارسا في إحدى ورشات استغلال المناجم، يحكي قصته المؤلمة منذ بدء الاصابة وصولا الى الاهمال وعدم نيل الحقوق وانتهاء بمشكل الجرنالية التي يتم التعامل معها بدونية في الشركة مرورا باصابته التي لم يسمح له بمعالجتها على حساب الشركة في مستشفيات الخارج.
ورغم معنوياته المنخفضة فان سالم ليس اسوأ حظا من سيدي ولد محمد ولد محمود الذي اصيب في موقع تنقيب عن المعادن مارس 2003 حيث اصابته جرافة اثناء عمله في نقل الحجارة المعدنية ففقد فمه بالكامل وافاق في نواكشوط اثناء تدخلات طبية.. الى اليوم لا يزال الرجل فاقدا لاسنانه رغم انه يكتفي بانه عاد للحياة مجددا بعد أن دخلت أسنانه في اللثة ولم يتم استخراجها الا في غرفة العمليات.
مساء.. في صولاته وجولاته قليلا ما يمر الرجل الخمسيني ولد أحمد نف، (عميد الجرنالية) بالمنازل الفخمة والحي الادراي الراقي في مدينة أزويرات الذي يحوي منازل كبار الاطر والمديرين في الشركة الوطنية للمعادن، لكنه يتواجد في احياء: “سيتي بوليس”.. “بكر”.. و”كوم عن سروالي ترديت” و”الزملة” واحياء فقيرة من هذا النواع حيث يوجد العمال الكادحون او عمال البنية التحتية.
يتقاضى “العميد” 54 الف اوقية شهريا بما في ذلك 3000 اوقية كتعويض للسكن وهو مع ذلك يصول ويجول ويجد نفسه قادرا على العيش عندما يرى مصائب العمال المثيرة للجدل.
يرفع الرجل عينيه حيث الجبال العملاقة التي تدوي فيها اصوات الانفجارات بين الحين والآخر لتفتيت صخور تضم في بطنها كميات كبيرة من المعادن ونقلها في اطول قطار في العالم، يتذكر قصص “الجرنالية” الذين يصابون في حوادث العمل وتطهر دماؤهم الكادحة رواتبهم من كل دنس.. رواتبهم الهزيلة تصلهم بعد قصة معانات صعبة في نقاط العمل الصاخبة.
يقول وهو يسعل متأثرا بالتلوث المنجمي: “لقد امر رئيس الجمهورية ان تتم تسوية وضعية الجرنالية في اسرع وقت عندما زارنا في نوفمبر الماضي يومين قبل الذكرى الخمسين لاستقلال موريتانيا، لدينا أمل كبير في ان يصبح ماقاله الرئيس واقعا ملموسا.. انه اول رئيس يقف على مشارف المدينة المنجمية ويقول كلاما من شأنه رفع معنوياتنا”.
يرتفع سعال الرجل كلما تقدم به العمر وهو يخدم اكبر شركة في البلاد، منذ ربع قرن من الزمن ولا يزال يفعل دون انقطاع.. وهو لا يعرف حقا ما سبب ذلك السعال المستمر.. لا احد يسأل في أزويرات.. الناس يسعلون فقط ويستمرون في العمل.. “المهم ان لا يتأخر أحد عن العمل”.. حكمة يتندر بها الناس في هذا الجزء من موريتانيا.. اطلقها عامل اصيب اثناء العمل في احد المناجم فقال: “بسيط جدا.. ليس سيئا أن أصاب في حادث، المهم ان لا اتأخر عن العمل”.