تكانت هي قلب موريتانيا، تماماً كما كانت أسرة أهل آب التي تنحدر منها، هي جوهرة الأسر الفنية في التاريخ الحديث لموريتانيا، اليوم طويت واحدة من أهم صفحات الفن العظيم الذي قدمته هذه الأسرة، لقد رحل سيداتي ولد آبه، تاركاً خلفه تراثاً وطنياً سيبقى حياً في الذاكرة الجمعية للموريتانيين.
سيداتي الذي تربى على هضبة تكانت، وورث منها حب الجمال والقدرة على الإبداع، وهي صفات لطالما حضرت لدى شعراء وفناني تلك الأرض، ولكن ذلك الفنان الشاب سرعان ما انفرد وتميز، فذاع صيته في أرجاء بلاد “البيظان”.
ففي مطلع ستنيات القرن الماضي، كان الفنان الشاب سيداتي ولد آبه، يجول في بوداي تكانت، حينها كانت الدولة الموريتانية في طور التشكل، وتريد عزف نشيدها الوطني الأول بآلة التدينيت التقليدية، التي ترمز لأصالة لا تريد الدولة الفتية أن تفرط فيها.
أرسلت الدولة وفدا إلى تكانت يبحث عن الفنان الشاب الذي ذاع صيته في البلاد، فقد وقع عليه الاختيار لعزف النشيد الجديد، ليسافر سيداتي إلى نواكشوط، ومن ثم سيستقل طائرة خاصة إلى مدينة ”سانت لويس“ في موريتانيا الخاضعة للاستعمار وقتئذ، ليعزف هنالك أول نشيد في تاريخ البلاد بآلة التدينيت.
وعندما قررت موريتانيا الاستقلال عن منطقة الفرنك الأفريقي عام 1973، وإصدار عملة جديدة (الأوقية) أختارت الفنان سيداتي ولد آبه، ليطل صوته مجلجلاً من المذياع لكي يعلن للموريتانيين ميلاد عملتهم الجديدة، تماما كما أطل عليهم لحظة ميلاد الوطن.
كان سيداتي أو ”الداتي“ كما يطلق عليه أفراد أسرته والمقربون منه، حاضراًً في أغلب لحظات الوطن المفصلية، مشاركاًَ بآلته التقليدية التدينيت في كتابة سردية الوطن.
في نهاية ثمانيات القرن الماضي، قرر الفنان سيداتي أن يدخل في شبه عزلة فنية، تاركاََ الساحة للجيل الجديد الذي تزعمته آنذاك ابنته أيقونه الفن الموريتاني، الفنانة الراحلة ديمي، التي توفيت قبله بتسع سنواتِِ.
فور الإعلان عن رحيل ولد آبه، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات تأبينية للراحل، الذي واكب مسيرة الوطن بفنه الأصيل، وإن كان قد أرتبط أيضا بأداء أغان تقليدية خالدة وقصائد شعرية عربية آسرة.
فقد وصف الصحفي والمدون ، محمد ناجي ولد أحمدو الفنان الراحل بأنه “جبل من المُثل والقيم.. أصله ثابت في سماء تكانت – أرضها، وذكره خالد ما إن ذكر الخلود”.
الصحفي محمد الأمين محمودي وصف سيداتي بأنه حافظ للفن الموريتاني على احترامه ونخوته وكبريائه ” مضيفاَ “ثم انجب الجوهرة ديمي”، متابعا ”هذا أفضل مايمكن أن يحققه آدمي للانسانية لو عُمر ألف عام“، وفق تعبيره.
أما الصحفي والباحث في علم الاجتماع عالي الدمين، فقد كتب ”برحيل العميد سيداتي ولد آبّه نفقد مدرسة أساسية رافقتنا في حياتنا الجماعية طيلة العقود الماضية“.
وأضاف ولد الدمين “نفقد صوتاً عذباً وجليلاً. نفقد ذاكرةً زاخرة. وكما فقدنا قبل سنوات قليلة ديمي، وكان فقدانها خسارةً كبيرة، فإننا اليوم نفقد برحيل سيداتي الإطار التجريبي والمدرسي الذي برزت ونمت فيه“’.
وكتب الكاتب والصحفي أقريني ولد أمينوه ” رحم الله “الداتي”سيداتي ولد ألفه ولد آبه،سلطان الطرب الموريتاني،الذي آنس أرواحنا منذ أن غنى فى “اغجيط”شريطه الرائع المسجل عام 1956.ومنذ ذلك اليوم البعيد وحنجرته تصدح بالهول الذي ينساب الى أسماعنا صافيا عذبا،لينسينا عذابات هذه الصحراء القاحلة“
وأضاف ولد أمينوه ” اليوم يستريح سلطان الطرب الأصيل بعد أن اعتلى عروش قلوب الموريتانيين عقودا سبعة من العطاء الذي لايعرف التوقف“.
أما المدون أحمد ولد جدو فقد كتب “ورحل الفن الموريتاني إلى مثواه الأخير.. رحم الله سيداتي ولد آبه”.
من أقدم التسجيلات الصوتية للفنان الراحل سيداتي ولد آبه
تسجيل للفنان سيداتي يغني للشاعر الصوفي عمر بن الفارض: