محمد ولد حمدو – خبير في الشؤون الإفريقية
هل من الصدفة أن تكتشف دول تحالف الساحل الثلاث، مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بشكل متزامن تقريبا، خطأ الخط السياسي والاقتصادي الذي انتهجته أنظمة الحكم فيها منذ عقود، باعتمادها شبه الكلي على فرنسا؟
هل من الصدفة أن تكتشف ذلك في خضم مراحل من الاضطراب السياسي،أعقبت انقلابات عسكرية، شهدتها هذه البلدان في تواريخ متقاربة خلال السنوات الأخيرة؟
وهل من الصدفة، أن تأتي صحوة الضمير، لتزيح هذه الدول الثلاث “البردعة” الفرنسية.. ولكن فقط لكي تحني ظهرها لـ”بردعة” أخرى، كما يقول كثيرون؟!!
هل يعمر تحالف هذه الدول، وينجح في الرد على الأسئلة المؤرقة للناس في هذه البلدان، في حياتهم العادية، وفي أمنهم واستقرار بلدانهم، وفي تنميتها والخروج بها من قاع البشرية السحيق؟!!
في دائرة “سيزيفية”
بعد عقود من نيلها الاستقلال عن فرنسا، وبعد عقود من تجارب سياسية واقتصادية رتيبة ومرتبكة، بدأت دول تحالف الساحل الثلاث، النيجر ومالي وبوركينا فاسو، تكتشف منذ ألفين وعشرين، أنها أضاعت وقتا طويلا، دون أن تحقق الكثير في مجالات التنمية، بل ربما بدا لنخبها المختلفة أنها كانت تتحرك في دائرة عبثية “سيزيفية” مغلقة، أبقت حياة الناس في هذه البلدان الثلاثة في ذات المستوى الذي تركها فيه الفرنسيون، يوم خرجوا منها قبل نحو سبعة عقود.
وللخلاص من هذه الحالة المزعجة، تحركت أنظمة الحكم في دول الساحل الثلاث في اتجاهات مختلفة، وبشكل متزامن، فقد قطعت أغلب الصلات بفرنسا، التي تحملها مجتمعة ومنفردة كل أوزار وضعها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الصعب، كما ابتعدت عن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وهي في نظر هذه الدول، مجرد وكيل للغرب ولفرنسا تحديدا في هذا الجزء من العالم، ثم شرعت بعد ذلك في تدشين مسار وحدوي أو تضامني أرادته وفق قواعد جديدة.
“من خارج الصندوق”
وبعد ما ابتعدت عن فرنسا، بكل رمزية الصلة الاستعمارية السابقة، وما تلاها من شبهات التبعية والاستغلال، رفعت هذه الدول بصرها، تبحث في الأفق الجيو – استراتيجي البعيد، تبحث عن حليف دولي جديد، أرادته من “خارج صندوق” المألوف، هذه المرة، فكان أن وقع الاختيار على الروس.
قد تكون هذه الدول قد نجحت، بطريقة ما، منذ الانقلابات التي شهدتها بين عامي 2020 و2023، في الابتعاد عن فرنسا، وقطع الصلة بها.
ولم تخل العملية من توتر وارتباك في بعض المراحل، وقد تسربت من تلك التجارب، عدوى العداء المتزايد لفرنسا، لتنتشر في مختلف دول المنطقة، حتى وصلت لبلدان كانت حتى وقت قريب مركز نفود تلقائي للمستعمر السابق مثل السنغال وساحل العاج القريبتين.
لكن هل يكفي ذلك لتنفصم علاقة فرنسا بدول الساحل، وتحني باريس رأسها، وتقتنع باستحالة عودة الأمور إلى سالف عهدها؟
ولكن السؤال قد يطرح بطريقة أخرى، فهل تنجح دول التحالف الساحلي الثلاث، في تحقيق الطلاق الفعلي مع فرنسا، وتقف على ساقها، مستقلة وقوية وسيدة نفسها؟
هل تقبل فرنسا الطلاق؟
في تقاليد الدول، خلافا للأفراد، غالبا ما يكون التسليم بالخروج نهائيا من مجال نفوذ معين، أمرا بالغ الصعوبة، ومن المألوف أن تناور الدول وتسلك في سبيل رفض ذلك والالتفاف عليه مسارات متعددة.
ولا شك أن فرنسا التي تملك شبكة علاقات ممتدة في منطقة الساحل والغرب الإفريقي، عمرها قرون، ترفدها صلات ثقافية ومصالح واستثمارات عملاقة، لن تقبل الهزيمة بسهولة.
وقد يسعفها نفسها الامبراطوري الطويل، بشيء من الصبر والأناة، لتعود لملعب الساحل، ولو بعد حين، وهي في ذلك تراهن في المقام الأول، على سرعة ترنح “تمرد” دول الساحل، خاصة أن تحقيق النتائج السريعة تنمويا وأمنيا، والحاسمة في إقناع الرأي العام المحلي، في السياق الخاص لهذه البلدان لا يبدو سهلا في الوقت الراهن.
ولكن ذلك لا يهمنا في هذا المقام، بقدر ما تسترعي انتباهنا قدرة دول الساحل على بلورة نموذج قابل للاستمرار والوقوف وحده.
“البردعة الروسية!!
من اللافت أن تتوكأ هذه البلدان عند خروجها من تحت عباءة فرنسا على حليف آخر، هو روسيا، وكأنها بعد ما اعتادت لعقود أن تعتمد على قوة كبرى، لم تصدق بعد أن بإمكانها أن تقف وحدها، أو لعلها فعلت ذلك في مرحلة انتقالية، ريثما ترتب أوراقها، وتستعد لممارسة حياتها الجديدة.
أيا كانت الأسباب أو الخلفيات، فقد نقلت هذه الدول نفسها من تحت العباءة الفرنسية وأدخلتها تحت العباءة الروسية!
أزاحت “البردعة” الفرنسية واستبدلتها بـ”البردعة” الروسية كما قد يتبادر لمن ينظر للأمر بتبسيط!!
لكن قد تكون المقارنة بين العباءتين غير واردة، فروسيا لا تملك ماض استعماري، ولم تكن لها صلات من أي نوع تقريبا بهذه البلدان، ما عدى نخب تحمل بعض الميول الشيوعية او اليسارية، وخريجين من الجامعات السوفياتية السابقة!!
لذا تبدو العلاقة بروسيا في هذه الدول خالية من حساسية التبعية أو شبهة الاستغلال الاستعماري.
ولكن هل يكفي ذلك وحده؟
وما حدود العلاقة الممكنة بين هذه الدول وروسيا؟
ومن يتحكم في رسم ملامح ومجالات هذه العلاقة؟
تحديان وجوديان..
تواجه دول الساحل في الوقت الراهن، تحديين كبيرين ووجوديين، أحدهما عمره بعمر هذه الدول، التي ولدت مؤسسيا مطلع الستينات الماضية، وهو تحقيق حد مقبول من التنمية، أما الثاني، فهو التحدي الأمني، وقد برزت ملامحه الأولى قبل نحو العقدين، وظل ينمو ويتفاقم ويتسع، مستفيدا من ضعف إمكانات هذه الدول، وموقعها واتساع جغرافيتها، ووعورة تضاريس بعضها، وتعدد القوميات والأعراق فيها.
فكيف ستكون مساهمة روسيا في مواجهة هذين التحديين المؤرقين لبلدان التحالف الساحلي؟
ليس سرا أن روسيا تعد من البلدان “السخية” في تقديم وبيع وتسويق السلاح، لكنها لا تبسط كفها جدا في العادة، حين يتعلق الأمر بالمساعدة في التنمية!!
“فاغنر”.. أو الكرم الروسي!!
وبالفعل فقد قدمت حتى الآن لدول الساحل الثلاث، أسلحة وذخائر، ووفرت مدربين ومكونين عسكريين وأمنيين، كما نشرت عناصر من “الفيلق الإفريقي”،الطبعة الخاصة من ميليشيات “الفاغنر” بكرم لافت.
وبحسب كل المؤشرات، فكما كانت كريمة بعناصر “الفاغنر” في مناطق الاضطراب الأمني، فقد كانت أكرم بهم على وجه الخصوص حول مواقع الثروات الطبيعية الباطنية في الأجزاء الشمالية من هذه البلدان، أي في الشريط الصحراوي الغني بالمناجم.
إن ذلك يعني ببساطة أن الهاجس التنموي، الذي كان هو الأول والأقدم بالنسبة لدول الساحل، ليس هو الأول في السلم بالنسبة لموسكو.
وربما تسرب عدوى ترتيب الأولويات لأصحاب القرار في هذه الدول، فأعادوا ضبط سلمه وفق توقيت روسيا، فقد نص الميثاق التأسيسي لـ”تحالف دول الساحل” على جملة الأهداف التالية، ولا توجد بينها – ويا للمفارقة – أي إشارة، ولو محتشمة، لمطلب التنمية:
– إقامة منظومة دفاعية مشتركة بين البلدان، لها القدرة على خوض الحروب الدفاعية والهجمات الاستباقية لمنع مساس أمن الدول الأعضاء.
– التضامن الكامل بين الدول الأعضاء والاندماج العسكري بينها إذا تعرضت أي دولة لاعتداء.
– مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في المنطقة المشتركة للحلف.
– العمل على منع التمرد والعنف المسلح في الدول الثلاث والتصدي له بالقوة المسلّحة إذا اقتضى الأمر.
– العمل من أجل توسيع الحلف، أمام الدول التي تشترك مع المجموعة في أهداف التحرر الاقتصادي والاستقلال السياسي.
للاستهلاك الآني..
بالتزامن مع التعاون العسكري المتنامي مع روسيا، تواصل دول تحالف دول الساحل منذ توقيعها “ميثاق ليبتاغو غورما”، وهي المنطقة الحدودية الجامعة بين مالي، والنيجر، وبوركينافاسو، مطلع العام الماضي، جهودها لإبراز وحدتها، معلنة عن عدة قرارات تتعلق بعملة موحدة وعلم مشترك والسماح بحرية تنقل الأشخاص والبضائع عبر أراضي دول التحالف.
كما تعلن كل واحدة منها، من حين لآخر عن توجه جديد في مجال استغلال الموارد الطبيعية، وتعزيز الاقتصاد المحلي وزيادة القاعدة الصناعية في بلدان حبيسة، تعاني من مصاعب مناخية مستطيرة ومزمنة، أدت لتدهور مستمر لمقومات الاقتصاد الريفي التقليدي.
أما النتائج السريعة المقنعة للرأي العام في حياته اليومية في هذه البلدان، فما زالت بعيدة.. تنتظر أن تتغير معطيات عدة، ليس أقلها أهمية، أن يدرك قادة التحالف أن منطقة الساحل، وهي ربما تكون تصحيفا لكلمة السهل بالعربية، بحسب بعض التفسيرات، هي مجال مفتوح أمام مختلف المؤثرات يمتد من المحيط الأطلسي في الغرب وحتى البحر الأحمر شرقا، لذا فمصير هذه الدول الثلاث، لا يمكن أن ينفصل عن هذا الفضاء الواسع بكل معطياته البشرية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتأكيد السياسية والأمنية.
وهذا يعني استحالة وضع حاجز بين دول التحالف الساحلي الثلاث وما يجري في هذا الفضاء الواسع، وكما أن عزل هذه الدول الثلاث، عن محيطها المباشر لا يبدو أمرا سهلا، فإنه ليس مفيدا في الوقت ذاته.
وضع خاص..
يضاف إلى هذه المعطيات الوضع الصعب الذي توجد فيه دول تحالف الساحل، الذي هو ثمرة تضافر عوامل الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والبيئة.
وأول ما تواجهه هذه الدول هو كونها دول حبيسة، تعيش بشكل يومي مزعج تداعيات الموقع البعيد عن المسارات البحرية الكبرى، والتاريخ الطويل من الاستغلال الاقتصادي من قبل الشركات الاستثمارية متعددة الجنسيات، وهي غربية في الغالب، ومعها البيئة القاحلة عموما خاصة في الأجزاء الشمالية من هذه البلدان.
وفي تاريخها السياسي الحديث لم ترفع هذه البلدان، بصرها بعيدا عن حدود ما ألفته منذ الاستعمار الغربي، لذا كانت تجاربها في مجال التدبير السياسي متقاربة ومكررة ورتيبة إلى حد بعيد، لم تتح لنخبها تقديم رؤى مختلفة عما أرادته فرنسا، التي صاغت بروية ومهارة النموذج الحاكم والمسيطر في هذه البلدان سياسيا وثقافيا واقتصاديا.
ولا شك أن دول التحالف الساحلي توجد اليوم أمام لحظة الحقيقة، فلم تعد تكفيها الخطوات والإعلانات الموجهة بالأساس للاستهلاك الإعلامي، وآخرها الانسحاب من منظمة الفرانكفونية، مظلة فرنسا الثقافية والسياسية العتيدة في القارة والعالم.
عليها دون تأخير أن تقدم لمواطن دولها أفقا جديدا للحياة المعيشية، يخرجه من وهدة المصاعب اليومية، وتوفر له مناخا أمنيا بعيدا عن شبح التهديدات الإرهابية التي تتربص يه، ليل نهار.
ألم يقل عالم الأنتروبولوجيا والاجتماع، ابن منطقة الساحل، المثقف المالي المرموق، أمدو هامبتي با، ” إن من يسأل يواجه الجهل لخمس دقائق، أما من يتجنب السؤال، فسيبقى جاهلا طيلة حياته”؟!!
فهل تطرح دول الساحل السؤال الآن لتتخلص دفعة واحدة من وضعها الراهن المزعج، أم تفضل الخيار الآخر، كما فعلت عدة عقود؟!!