وجه مقربون من الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز، أمس الخميس، دعوات إلى مجموعة من الصحفيين لحضور مؤتمر صحفي سيعقده في مقر إقامته بنواكشوط، حُدد موعد انطلاق المؤتمر عند تمام الساعة الثامنة مساءً، ولكنه تأخر خمس ساعات كانت كافية لتكشف عمق الأزمة وحجم العزلة.
مع اقتراب موعد بداية المؤتمر الصحفي، كان الشارع المؤدي إلى مقر إقامة الرئيس السابق بمقاطعة لكصر، مكتظاً بالسيارات على غير عادته، كانت حركة السير بطيئة جداً، فالسائقون لا يبدون أي عجلة وهم يستطلعون المشهد بهدوء، ويطرحون الأسئلة على المارة.
شاب في حدود الثلاثين من العمر يخرج رجله من نافذة السيارة، يسأل: «ترى ماذا سيقول عزيز ؟»، بينما يستوقفني سائق آخر ليسأل: «كيف يمكنني الدخول، أريد أن أكتشف ما وراء هذا السور»، أرد عليه باقتضاب: «الدعوة موجهة لبعض الصحفيين.. بعضهم فقط» !
إن الزحمة المرورية أمام محل إقامة الرئيس السابق، كان سببها الرئيس فضول شباب نواكشوط لمعرفة ما سيجري، في ظل انتشار شائعات عن مضايقة ولد عبد العزيز ومنعه من مؤتمره الصحفي، كان الجميع يودون اكتشاف الحدث بأنفسهم.
عند البوابة !
عند تمام الثامنة.. وأمام بوابة القصر الجديد الذي يقيم فيه الرئيس السابق، كان عشرات الأشخاص، يتزاحمون بحثاً عن فرصة للدخول، صحفيون مدعوون وآخرون غير مدعوين، مدونون وفضوليون، رجال أمن في الزي المدني وسماسرة قدموا من سوق السيارات القريب، إنها فوضى عارمة يعجز الحراس غير المحترفين عن السيطرة عليها.
وعلى ناصية الشارع الأخرى نسوة يرفعن لافتات تقول إنهن «دائنات الشيخ الرضا»، ويهتفن بشعارات تطالب ولد عبد العزيز بإرجاع حقوقهن المستلبة، بعضهن يرددن هذه الشعارات بحماس عبر مكبرات صوت صغيرة، لقد كانت رغبتهن في إزعاج الرجل وأسرته واضحة، ولكن ولد عبد العزيز خرج إليهن وقال: «اذهبن إلى من أرسلكن ليدفع لكن، فأنا لم أقترض من عندكن أي دين ؟»، ثم عاد إلى قصره الجديد.
الضجة التي أحدثتها «دائنات الشيخ الرضا» وما خالطها من ضجيج السيارات وأبواقها، أثار فضول سكان القصر الجديد، فظهرت نسوة يتابعن المشهد من نوافذ الطوابق العلوية للقصر، كن يتابعن بصمت محاولات فرقة من شرطة مكافحة الشغب تفريق التجمهر الذي بدأ يكبر حول «دائنات الشيخ الرضا»، لم يستخدم أفراد الشرطة القوة، بل كانوا ناعمين أكثر من اللازم، ما سمح للمحتجين والمحتجات بالتجمهر في زاوية أخرى من الشارع، وكانت هتافاتهم تصل إلى داخل باحة إقامة الرئيس السابق.
عند البوابة كان الزحام على أشده، وحراس الإقامة الذين لا يرتدون أي زي موحد وإنما لباساً مدنياً عادياً، كانوا يظهرون قسوة وغلظة زائدتين، ربما لتعويض البزة العسكرية الغائبة، يطلبون بحدة من الصحفيين الداخلين ترك هواتفهم عند البوابة، رغم أن ذلك لم يمنع بعض الصحفيين من تهريب هواتف إلى الداخل.. لقد كانوا حراساً غير محترفين !
ضاعت ساعة في الزحمة !
القاعة الفخمة !
عند دخول البوابة، يظهر الباب الرئيس لأحد أجنحة القصر، على بعد عشرين متراً، تلك هي الباحة الممتدة بشكل أفقي بين السور والقصر، ولكن الحارس أشار إلى اليمين حيث توجد قاعة ذات قباب خضراء مسننة ونقوش أندلسية متقنة، إنها قاعة الاستقبال التي جلس فيها الصحفيون فأصابتهم بالذهول.. كانت فسيحة تتناثر في أطرافها أرائك ومخدات على قواعد خشبية مطرزة، وفي صدرها سجاد تركي فاخر أحمر اللون، تتوسطه ثلاث دوائر متباعدة، وضعت على كل دائرة صينية خشب طرزت أطرافها بنحت ذهبي اللون أندلسي الطراز، وفي أركان القاعة أواني ذهبية اللون عليها أعواد طيب مغربي فواح، أما سقف القاعة فكان ناصع البياض تزينه نقوش على ألواح من الخشب الأصفر الذي غلفت به حواف السقف، فيما تتدلى ثلاث ثريات من الكريستال لتنثر النور في المكان.
ترامى الصحفيون والمصورون، وحفنة من المدونين، على الأرائك، تتلبسهم الدهشة أمام القاعة التي لم تكن سوى قاعة استقبال، وبعد أن تجاوزتهم الدهشة الأولى شرعوا في إلقاء النكت حول القصر الجديد الذي يقطنه الرئيس السابق، ويتساءلون عن «محكمة الحسابات».
ولكن سرعان ما خفت بريق القاعة، وعاد الصحفيون للحديث عن المؤتمر الصحفي، ورمي التحاليل والتوقعات، منهم من يؤكد أن الرئيس السابق سيعلن الانسحاب من السياسة، رأي يرفضه أحد المتعصبين للرأي القائل بأن ولد عبد العزيز سيصعّد ويفتح النار على الجميع، ولكن أغلب الحاضرين ظلوا حائرين وعاجزين عن التوقع أو التحليل.
مرت الساعة الثانية، أصبحت خلالها قاعة الاستقبال عادية جداً، بل باهتة وخالية سوى من صحفي واحد فضل النوم على أريكة وثيرة تحت مكيف كاتم الصوت، الآخرون خرجوا إلى الباحة، بعضهم يدخن وأغلبهم يراقب من بعيد الاستعدادات للمؤتمر الصحفي، بينما يتصيد آخرون رؤية الرئيس السابق أو أحد أفراد عائلته.
في الباحة !
الباحة المرصوفة بالحجارة والمحفوفة بالعشب وبعض النباتات المزهرة، ومصابيح كهربائية متفرقة في أطرافها، كانت تمنح إطلالة مباشرة على باب الجناح الرئيسي من القصر، ذلك الجناح المختلف في تصميمه المعماري، فعلى الرغم من أن سور القصر كان ذا طابع محلي حين تم تطريزه بالحجارة المستخرجة من جبال آدرار أو تكانت، ومع أن قاعة الاستقبال كانت مغربية الطراز المعماري بقببها الخضراء المسننة ونقوشها الأندلسية المتقنة، إلا أن القصر نفسه كان ذا طابع معماري عصري، يأخذ جماله من بساطته وتناسق ألوانه البيضاء والسوداء الخافتة، وأساطينه الخالية من أي نقوش، ما أعطاه نوعاً من الحياد الجميل، في وسطٍ يتنازعه طرازان معماريان.
ينفتح باب القصر الذهبي، ليخرج ولد عبد العزيز، يلقي نظرة خاطفة على الباحة، على بُعد أكثر من عشرة أمتار يقف صحفيون كفّوا عن الحديث وانهمكوا في مراقبته، يتجاهلهم بحركة واضحة ومتعمدة، يقطع خطوات هادئة وبطيئة إلى الأمام، كان يسير وحده في دراعته البيضاء، ينزل درجين يفصلانه عن أرضية الباحة، يقف ليتحدث مع زوج ابنته محمد ولد امصبوع ومدير تشريفاته الجديد أحمد ولد الدوّه.. لا شيء مسموع ولكن لغة الجسد والنظرات الموجهة نحو مكان انعقاد المؤتمر الصحفي حيث تجري الاستعدادات، كل ذلك يؤكد أن «الرئيس السابق» غير راضٍ عن التأخير، وأن الأمور لا تسير وفق ما تعود عليه.
السيدة الأولى السابقة خرجت بدورها نحو الصحفيين، سلمت على بعضهم، وخصت بسلام حار صحفيتين كانتا تجلسان في قاعة الاستقبال، أعطت بعض التعليمات للعمال، وانسحبت بهدوء، بعد دقائق عاد العمال يحملون أكياس علب المياه المعدنية، وزعوها على الصحفيين الذين كانوا قد رجعوا إلى قاعة الاستقبال بعد أن تورمت ركبهم من الوقوف في الباحة.. لقد مرت ثلاث ساعات.. إنها الحادية عشر ليلاً.
من خلف السور كانت أصوات المحتجين قد خفتت، وحلت محلها أصوات الزغاريد والأغاني، فهل تحول الاحتجاج إلى احتفال ؟.. يقول أحد الصحفيين معلقاً: «لقد وصل أنصار الرجل»، يرد عليه آخر: «لعلهن صديقات السيدة الأولى».. يضحك الصحفيون وهم يتقاذفون قنينات المياه بينهم.
الجلسة !
جلس ولد عبد العزيز على مقعد في صدر المجلس، عن يمينه سيدنا عالي ولد محمد خونه، وعن شماله بيجل ولد هميد، جميعهم يرتدون اللون الأبيض وأمامهم على النضد الخشبية حزمة من الأوراق البيضاء، لا تكاد تهدأ من قوة الريح، ولولا عمامة بيجل السوداء لكان للبياض هنا دلالته.. لقد مزقت عمامته راية الاستسلام !
قبالة الرئيس السابق ورفيقيه كان يقف المصورون بكاميراتهم المتحفزة، وعن يمينهم وشمالهم جلس أكثر من 30 صحفياً ومدوناً، واثنين من تيار «كلنا عزيز»، لم تكن المقاعد كافية لجلوسهم فتولى ولد امصبوع وولد الدوه مهمة جلب كراسي إضافية.
كان الديكور في باحة القصر الجديد شبيهاً بديكور المؤتمرات الصحفية التي عقدها ولد عبد العزيز وهو رئيس للبلاد في القصر الرمادي، ولكن هذه المرة غابت التلفزة الموريتانية التي كانت تنقله في بث مباشر، وغابت تشريفات الرئاسة التي كانت تتولى التنسيق والضبط والتنظيم.. لقد غابت أبهة السلطة وهيبتها.. وحضر «عزيز» !
في انتظار الجاهزية الفنية للبث المباشر، خيم الصمت.. كان ولد عبد العزيز أغلب الوقت منهمكا في هاتفه، تارة يرد على مكالمة أو يكتب رسالة نصية، وتارة أخرى يستمع لمقطع صوتي عبر وضع الهاتف عند أذنه، وفي بعض الأحيان يترك هاتفه جانباً وينهمك في تنظيم الأوراق البيضاء التي أمامه، والتي من ضمنها ملف يحمل شعار حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، لقد بدا واضحاً أن الرجل يود تركيز الحديث عن الحزب ويتفادى الرئيس.. إنه قرر مطاردة الرمية وترك الرامي !
فريق قناة الساحل الخاصة الذي وصل متأخراً، كان هو من سيتولى مهمة بث المؤتمر الصحفي مباشرة، أمر أصر عليه ولد عبد العزيز رغم العراقيل الفنية التي واجهت الفريق، لقد كان في كل مرة يبلغونه بصعوبة الأمر، يصر على الانتظار.. تمت أربع ساعات من الانتظار داعب خلالها النوم أحد رفيقي الرئيس السابق !
الشاي والنكت !
نال الإرهاق من الصحفيين الذين قال أحدهم مخاطباً زميله على مسمع من ولد عبد العزيز: «لو شربنا كأساً من الشاي لكان الانتظار هيناً»، رد ولد عبد العزيز بنوع من الاعتذار: «صحيح.. مشكلة الشاي في هذا البيت هو أنني لا أشربه، لذا لا يعدونه إلا نادراً»، ورفع بصره نحو السيدة الأولى الجالسة على بعد عدة أمتار مع بعض النسوة وعاملة فلبينية، وقال: «أعدوا الشاي بسرعة».. دقائق قليلة وجاءت صينية الشاي !
لقد كسر الشاي الجليد بين الرئيس السابق والصحفيين، وبدأت الأحاديث عن أهميته بالنسبة للموريتانيين، وسردت نكت في ذلك كان ولد عبد العزيز يقابلها بابتسامة خفيفة لا تخلو من مجاملة، قبل أن يقول إن «الشاي يجب تطويره»، مشيراً إلى أن طريقة التناوب على نفس الكأس تنقل الأمراض وغير متحضرة.
توسع الصحفيون في الحديث عن الشاي، وتنوعت قصصهم، ومع مرور الوقت أصبحوا يلقون النكت فتصطدم بتجاهل ولد عبد العزيز المنشغل بالمشاكل الفنية التي تمنع انطلاقة المؤتمر الصحفي، أما رفيقاه فلم يبديا أي رغبة في الحديث ولا التفاعل مع الصحفيين، لقد كانوا مكتفين بدورهم كمكمل للمشهد.
للمرة الثالثة همس القيادي السابق في لجنة إعلام الحزب الحاكم أحمدو ولد الدوّه، الذي تحول خلال الأيام الأخيرة إلى واحد من أقرب المقربين من الرئيس السابق، همس في أذن ولد عبد العزيز بكلام خافت وسريع، شبك ولد عبد العزيز أصابع يديه، ولإخفاء التوتر حرك إبهاميه بشكل دائري، وقال مخاطباً الصحفيين: «سيتوجب علينا الانتظار أكثر»، علق أحد الصحفيين: «لا مشكلة»، رد ولد عبد العزيز باللغة الفرنسية: «إنه مؤتمر صحفي غير عادي»، قبل أن يكمل بالحسانية: «منذ أسبوع ونحن نحاول تنظيم هذا المؤتمر، وما لقيناه من مشاكل أمر غير طبيعي»، تبرع أحد الصحفيين بالتدخل لمحاولة التخفيف أو المواساة: «إنها المشاكل الفنية»، رد عليه ولد عبد العزيز: «المشكلة أعمق من مجرد خلل فني» وضحك.. ليضحك بعده الصحفيون !
الحديث عن المشاكل الفنية والبث المباشر، فتح الباب أمام بعض الصحفيين من ذوي الخبرة لاستعراض عضلاتهم أمام ولد عبد العزيز، عن تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وكيف أن أجهزة جديدة أصبحت تتيح خدمة البث المباشر باستخدام الانترنت وبسرعة فائقة وجودة عالية، سأل ولد عبد العزيز عن أسعار هذه الأجهزة، فتضاربت أقوال الصحفيين، بعضهم قال إنها تباع بأسعار في حدود الأربعين ألف دولار، وآخرون قالوا أربعة آلاف فقط.. رفع ولد عبد العزيز بصره عنهم، واختفى الاهتمام الذين كان بادياً في عينيه.. لقد مرت خمس ساعات والساعة الآن الواحدة فجراً.
بدأ المؤتمر الصحفي.. وبعد مرور نصف ساعة بدأ البث المباشر..