في السادس من يونيو، أعلنت مجموعة “فاغنر” الروسية إنهاء مهمتها في مالي، بعد ثلاث سنوات من القتال إلى جانب الجيش المالي لاستعادة السيطرة على مناطق شاسعة تنشط فيها الجماعات المسلحة.
أنهت “فاغنر” مهمتها، ليحلّ محلّها “فيلق إفريقيا”، وهو مجموعة مسلحة مقربة من الكرملين أنشأتها وزارة الدفاع الروسية، في مسعى لترسيخ وجود أكثر مؤسساتية في إفريقيا، بعيدًا عن الصورة المثيرة للجدل التي ارتبطت بمجموعة “فاغنر” خلال السنوات الماضية.
“الروس لن يغادروا مالي”، هكذا أكد “فيلق إفريقيا” في بيان نشره على تلغرام، موضحًا أن ما جرى هو “تبادل للرايات”، في وقت تشهد فيه الدولة الواقعة في الساحل الإفريقي تدهورًا أمنيًا غير مسبوق، وارتفاعًا في وتيرة الهجمات المسلحة التي كبّدت الجيش المالي و”فاغنر” خسائر كبيرة خلال الأيام الماضية.
إعادة الروس مراجعة استراتيجيتهم في الساحل، عبر إنشاء هذا الفيلق الذي ينشط أيضًا في النيجر وبوركينا فاسو، لمساعدة هذه الدول على بسط سيطرتها على أراضيها، يعيد إلى الأذهان تعاقب العمليات العسكرية في مالي تحت مسميات عدة، من “سيرفال” التي أطلقتها فرنسا، إلى “فيلق إفريقيا” التابع لروسيا، فكيف تعاقبت هذه العمليات؟ وما الذي حققته في مسار الصراع المستمر في مالي؟
عملية سيرفال
في 10 مايو 2013، أطلقت فرنسا عملية “سيرفال” العسكرية في مالي بهدف وقف تقدم الجماعات المسلحة نحو العاصمة باماكو، استجابة لطلب رسمي من الحكومة.
باشرت القوات الفرنسية وقف “زحف” الجماعات المسلحة التي كانت قد سيطرت على مناطق شاسعة وسط انهيار الجيش المالي. واعتُبرت هذه القوات، من وجهة نظر باماكو، “قوات إنقاذ”.
وحققت “سيرفال” نجاحات كبيرة خلال عام واحد، إذ أوقفت تقدم الجماعات المسلحة جنوبًا، وساهمت في استعادة ثلثي الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها جماعات “أنصار الدين”، و”حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا”، و”القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، المرتبطة بتنظيم القاعدة.
لكن التعاون الفرنسي مع “حركة تحرير إقليم أزواد”، وهي حركة متمردة، ومساعدتها في السيطرة على مدينة كيدال، زرع الشكوك في أوساط الماليين، الذين نظروا إلى تلك الخطوة بريبة.
عملية برخان
لم تتوقف مهمة فرنسا عند هذا الحد، ففي عام 2014، أطلقت عملية “برخان” لتوسيع نطاق عملياتها لتشمل منطقة الساحل بأكملها.
وبدأت العملية بنحو 3,000 جندي فرنسي، وبلغ عددهم ذروته عند 5,100 جندي في عام 2020. كانت قيادة العملية وقواتها الجوية متمركزة في العاصمة التشادية نجامينا، فيما أدارت فرنسا قواعد عسكرية في غاو (مالي)، ونيامي (النيجر)، وواكادوغو (بوركينا فاسو).
واعتمدت باريس على دعم دولي في “برخان”، إذ ساندتها قوات من الولايات المتحدة، التي قدّمت معلومات استخباراتية عبر طائرات استطلاع مسيّرة، إلى جانب مساهمات عسكرية أوروبية شملت 90 جنديًا من بريطانيا، و95 من إستونيا، و70 من الدنمارك، و60 من جمهورية التشيك.
ورأى محللون فرنسيون أن توسيع باريس عمليتها لتشمل منطقة الساحل كان “خطأ”، حين قررت البقاء عسكريًا بعد تحقيق أهداف “سيرفال”.
فقد فشلت “برخان” في تحقيق الأهداف التي رسمتها باريس، خلافًا للنجاحات التي أحرزتها “سيرفال”. واعتُبر هذا التحول “خاطئًا”، إذ تعقّدت قدرة فرنسا على القضاء على الجماعات المسلحة مع توسع العمليات.
قوة تاكوبا
أدركت باريس هذا الخطأ مع تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة، ما دفعها إلى مراجعة استراتيجيتها في مالي، وقيادة جهود لإنشاء قوة “تاكوبا”.
وأقنعت فرنسا شركاءها الأوروبيين بتقاسم عبء مكافحة الإرهاب، فساهمت عشر دول أوروبية في تشكيل القوة، التي ضمّت بين 800 و900 جندي من قوات النخبة.
وكانت مهمّة “تاكوبا” مساعدة القوات المالية على اكتساب استقلالية، وتمكينها من استعادة السيطرة على أراضٍ كانت قد تخلّت عنها الدولة، في مواجهة جماعات مسلحة مرتبطة بالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية.
غير أن “تاكوبا” لم تلغِ “برخان”، بل جاءت كمكمّلٍ لها، لمساعدة الجيش المالي وتدريبه في مواجهة الجماعات المسلحة.
فك الشراكة
لكن تدهور العلاقات بين باريس وباماكو، عقب الانقلابين العسكريين في مالي في أغسطس 2020 ومايو 2021، اللذين مهّدا لوصول آسيْمي غويتا إلى السلطة، قلب خطط فرنسا في مالي رأسًا على عقب.
وتزايدت النقمة الشعبية على فرنسا في المدن المالية، حيث خرجت مظاهرات مناهضة تدعو لإنهاء التعاون معها. سارع المجلس العسكري إلى تلبية هذا المطلب، عبر طرد القوات الفرنسية والأوروبية من البلاد.
وفي أجواء مشحونة، ومع تصاعد المظاهرات المعادية لفرنسا في باماكو، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نوفمبر 2022 رسميًا إنهاء عملية “برخان”.
وكان آخر الجنود الفرنسيين قد غادروا مالي في أغسطس 2022، منهين بذلك تسع سنوات من العمليات العسكرية هناك.
دخول فاغنر
بدأت روسيا ملء الفراغ الفرنسي في مالي، لتصبح الحليف الجديد لباماكو في حربها ضد الجماعات المسلحة، عبر الاستعانة بمجموعة “فاغنر” نهاية عام 2021.
وتشير التقارير إلى أن “فاغنر” بدأت عملياتها الفعلية في البلاد في ديسمبر 2021، مع نشر نحو 1,000 إلى 1,500 مقاتل لتقديم الدعم الأمني والتدريب، مقابل الوصول إلى الموارد الطبيعية مثل الذهب والمعادن الأخرى.
وأطلق الجيش المالي بالتعاون مع “فاغنر” عملية عسكرية واسعة شملت مختلف المناطق، وخاض الطرفان معارك عنيفة ضد الجماعات المسلحة في موبتي وسيغو وغاو.
ووُجّهت لفاغنر اتهامات بارتكاب مجازر بحق المدنيين، أبرزها مذبحة مورا في مارس 2022، التي أودت بحياة مئات الأشخاص، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.
إلى جانب العمليات العسكرية، اضطلعت “فاغنر” بمهام تدريب وتأهيل القوات المالية، عبر تنظيم دورات في القتال غير النظامي واستخدام الأسلحة الروسية، وتقديم استشارات ميدانية لوحدات مختارة في الجيش المالي.
بعد ثلاث سنوات من العمليات، أعلنت “فاغنر” إنهاء مهمتها في مالي، مؤكدة أن القرار جاء بعد استعادة جميع عواصم الأقاليم وإعادتها إلى سيطرة الحكومة المركزية في باماكو.
تنسحب “فاغنر” في وقت تشهد فيه البلاد وضعًا أمنيًا متوترًا، تتصاعد فيه المعارك بين الجيش والجماعات المسلحة التي كثّفت من هجماتها. وتشير تقارير إلى أنها باتت تسيطر على عدة مناطق في شمال وغرب البلاد.
فيلق أفريقيا
غير أن هذا الانسحاب لا يعني انتهاء الوجود الروسي، بل يأتي في سياق مراجعة شاملة أجرتها موسكو، تمخضت عنها ولادة “فيلق أفريقيا”، الذي بات يمثّل الواجهة العسكرية لوجودها في المنطقة.
وأصدر “فيلق إفريقيا” بيانًا أكّد فيه استمرار الوجود الروسي في مالي، وجاء فيه: “روسيا لا تفقد موطئ قدمها، بل تواصل دعم باماكو، والآن على مستوى أكثر عمقًا واستراتيجية”.
وبحسب تقارير إعلامية، يبلغ عدد مقاتلي “فيلق إفريقيا” نحو 6,000 عنصر، موزعين على النحو التالي: حوالي 2,000 في مالي، أكثر من 1,600 في جمهورية إفريقيا الوسطى، بين 100 و300 في بوركينا فاسو، و100 إلى 200 في النيجر.
وسيرتكز عمل الفيلق الجديد على تقديم الدعم العسكري واللوجستي والتدريب للجيش المالي، خصوصًا في المناطق التي تشهد اضطرابات أمنية وتُعد معاقل للجماعات المسلحة.
ومن المتوقع أن يُركّز “فيلق أفريقيا” عملياته في محيط العاصمة باماكو، مع تنفيذ ضربات جوية ضد الجماعات المسلحة عند الضرورة.
لكن تصاعد حدة المعارك بين الجماعات المسلحة والجيش المالي يضع الفيلق أمام تحديات كبيرة في مساندة القوات المالية على استعادة السيطرة وتعزيز الاستقرار في مناطق واسعة من البلاد.