تهفو أفئدة المسلمين في جميع أرجاء الكون إلى زيارة الحرمين الشريفين، والصلاة فيهما، والتلوم في عرصاتهما؛ فهنالك تقضى حاجة المُتلَوم!
أجل.. إن الشوق والحنين يعتلج في قلب كل مسلم، توقا إلى تلك الأماكن الطاهرة المقدسة، ففي المسجد الحرام، ينتصب البيت العتيق (الكعبة المشرفة) الذي يتوجه المسلمون في اليوم خمس مرات اتجاهه، وفي المسجد النبوي بالمدينة المنورة توجد البقعة التي تضم مثوى جسد أكرم الخلق عند الله سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وهي أفضل بقعة على التحقيق، فكيف لا يتمَلَّك الحب الجارف والشوق المزمن قلب كل مسلم لزيارتها؟!
لقد تشرفنا وسعدنا خلال النصف الأخير من شهر فبراير الفارط، بأن كنا ضمن ضيوف خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله، فحظينا بزيارة المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ومكة المكرمة، وأدينا مناسك العمرة، وهي مكرمة جليلة وخير عظيم، دأب جلالته على إسدائه لآلاف المسلمين عبر العالم.
أيام من نور
غادرنا نواكشوط فجر الأربعاء الرابع عشر من فبراير، برفقة نخبة مجتمعية ضمت علماء وأيمة ومشتغلين بالإعلام والثقافة، وبعد توقف قصير في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، واصلنا الطيران نحو جدة، ومن جدة أقلعنا نحو المدينة المنورة التي وصلناها بعد العشاء، فيالله ما أسعد مصافحة كلمات المضيف في طائرة الخطوط الجوية السعودية، صماخ آذاننا وهو يقول: لقد حطت بنا الطائرة على أرضية مطار الأمير محمد بن عبد العزيز، بالمدينة المنورة.
ولا حت لنا أضواء طيبة النيرة، ودخلنا المطار والبشائر تحملنا على أجنحة من ألق، فاستقبلنا العاملون في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين، بترحاب أصيل وأصروا أن يفرشوا لنا مُهج قلوبهم وسواد عيونهم وجعلوا بين جفونهم طريقا ثم كان مرورنا منها.
خرجنا من المطار للحافلة التي بدأت تلتهم شوارع طيبة بسرعة، وليت سائقها أدرك شوق من يحمل لكل زاوية وركن يمر بهم وتلبَّث قليلا.. دقايق وتلوح مآذن المسجد النبوي الشريف وقبابه، فيخفق القلب ويستحضر العقل والقلب والروح، ما للمكان من قداسة وجلال.. وصلنا مشارف الحرم بالقرب من باب الملك فهد، رحمه الله، حيث الفندق الفخم الذي سنقيم فيه، وعند بوابته كان أهل برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين، يدَّخرون لنا صنوفا من الترحيب، إذْ نثروا فوقنا الزهور والورود ورشُّونا بالعطور وأوقدوا لنا البخور وأدار مديرهم علينا كؤوس القهوة العربية الأصيلة والحلوى والتمور.
دخلت سريعا إلى غرفتي فألقيت حقيبة سفري وتوضأت ثم خرجت في ذلك الوقت إلى المسجد النبوي، وما أعظمها من لحظات وأجلها؛ لحظات يجد المشوق فيها نفسه على بعد خطوات ممن أضناه شوقا وهياما
وآلت بنا الأحوال آخر وقفة
إلى كلمات ما لهن حروف
واستعدنا في لحظات أكثر من عقدين من التوق والتطلع لخطوات كتلك..
لئن أذنبت قدما ليالي افتراقنا
فقد شفعت في ذنبها ليلة الوصل
دخلنا إلى المسجد، وبعد تحيته دلفنا سراعا إلى المواجهة، وهناك اختلطت الكلمات بالعبرات وسكرنا في معركة البحث عما يناسب المقام الباذخ من مفردات، فالحمد لله الذي تكرم وأعطى له الأمر من قبل ومن بعد وصلى الله وسلم على صاحب تلك الروضة الذي بلَّغ وهدى ورضي الله عن صاحبيه خليفتية وعن آله الأكرمين وصحابته الطيبين.
أمضينا في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي جواره، أياما ما أودُّ أن لي بها حمر النعم، ومن أسعد لحظاتها يوم دخلنا بين الظهر والعصر إلى روضته الشريفة وصلينا بينها ومنبره، مستحضرين قوله عليه الصلاة والسلام، ما بين روضتي ومنبري روضة من رياض الجنة.
وقد تكرم أهل “البرنامج” بأن أتاحوا لنا فرصة زيارة جبل أحد الذي قال عنه الصادق المصدوق “أحد جبل يحبنا ونحبه” فرأينا مكان معركته الخالدة والسياج الذي ضم الشهداء الذين سقطوا فيها وفي مقدمتهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وصعدنا جبل الرماة.
كما مكنونا من زيارة مجمع الملك فهد، لطباعة المصحف الشريف، ذلك المجمع الذي وفَّر دستور هذه الأمة لها أينما كانت، ثم زرنا مسجد قباء؛ أول مسجد أسس على التقوى.
ثم زرنا معرض السيرة النبوية المقام في مواجهة القبة الخضراء، وناهيك به من معرض جمع كل شاردة و واردة تتعلق بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، في ثوب بهيج وعرضها بشكل يجعل المتفرج يتعايش معها ويكاد يلمسها باليدين.
وقبل أن نبارح طيبة الطيبة، حرص أهل “البرنامج” على أن نلتقي بأحد أيمة الحرم النبوي، في لقاء جامع أفاض علينا فيه نصائحه وإرشاداته وحدثنا حديثا شيقا عن المدينة المنورة وما كان من أمرها أيام الهجرة وما بعدها.
إلى أم القرى..
انطلقنا من الساحة الشمالية للحرم النبوي ولولا أننا قاصدين أم القرى؛ مكة المكرمة، لكان ذلك أمرا يصعب تَحَمله، خاصة ممن زاده اللقاء شوقا وأضرم فيه القرب حبا
أشوقا ولما يمض بي غير لحظة
فكيف إذا جدّ المطي بنا عشرا
وصلنا آبار علي، وفيها صلينا الظهر وركعتين بعده، ثم أحرمنا بعمرة وتعالت التلبية من كل أرجاء الحافلة التي كانت تذرع الطريق نحو مكة.
دخلنا مكة عشاء فلاحت معالم الحرم للناظرين، وكنا لفرط الشوق نستبطئ عدو الحافلة المكبلة بزحمة المرور ونطير على أجنحة الشوق لنزل إلى حصباء مكة، وصولا إلى الحرم الآمن.. وصلنا أخيرا إلى مقر إقامتنا في برج فندقي فخم على جبل عمر، فكان الإخوة في “البرنامج” على موعد مع نثر ما في جُعبهم الكريمة من أنماط التبجيل والترحيب والتكريم، وكأنهم يدخرون لكل محطة ما يخصها، مما يسر الناظرين، فجزاهم الله خيرا.
دخلت سريعا إلى غرفتي وتوضأت ثم نزلت إلى الحرم.. دخلت من باب الملك فهد، رحمه الله وترجلت قليلا مشدود البصر والبصيرة بجلال المكان وعظمته، ثم شرعت في النزول التدريجي من السلالم نحو صحن الكعبة، وبعد أن استوت قدماي على جودي الصحن الأطهر، وقفت مالئا عيناي بل كل جوارحي وأحاسيسي من الكعبة المشرفة، مكبرا وحامدا وشاكرا وداعيا.. شعرت بقشعريرة ما شعرت بها قط، واغرورقت عيناي بالدمع.. شعرت بأنني أقرب إلى السماء وغبت عن الأمواج البشرية التي تشغل كل ذرة في المطاف، ثم عدت لتأمل الكعبة التي يتوجه إليها كل مسلم في اليوم خمس مرات وجوبا.. بدأت أولى خطواتي مع الطائفين، تجاوزت الركن اليماني و وصلت إلى ركن الحجر الأسعد الذي لوحت له بيدي مسلما وبادئا أول أشواط الطواف السبعة..
كان الشعور برهبة المكان وجلاله وجماله يتجدد كلما نظرت في تفاصيل البيت العتيق وأركانه وكستوته الحريرية السوداء المزركشة بالأحرف الذهبية المتناسقة، وكان الطائفون من حولي يلهجون بالدعاء والتضرع لملك الملوك ورب الأرباب، موقنين باستجابة دعائهم.
أنهيت الأشواط السبعة بركن الحجر الأسعد كما بدأت، وقد اقتربت منه كثيرا لكني لم أستطع لفرط الزحام أن أصل إليه، فتعلقت بأستار باب الكعبة ودعوت هناك للنفس والأهل والوطن وبلاد الحرمين والأمة كلها، ثم صليت ركعتين خلف مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، المنتصب أمام باب الكعبة التي وضع قواعدها، حاملا إلى اليوم آثار قدميه الشريفتين، ثم أطفأت بنمير زمزم الرقراق عطشا كان يلازمني كلما رأيت البيت العتيق أوتحدث عنه متحدث، وتوجهت إلى الصفا والمروة، لأسعى بينهما سبعة أشواط، وخرجت من الحرم لأحلق شعر رأسي، منهيا آخر محطات العمرة، ثم عدت للفندق لألبس المخيط وأخلد للراحة استعداد لأول صلاة لنا في الحرم المكي.
أمضينا أياما في أم القرى، نقبس من نورها الممتد ملء الكون، وقد كان الإخوة في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين كراما في مكة كما كانوا في المدينة، فمكنونا من زيارة غار حراء الذي كان الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، يتعبد فيه قبل البعثة وعليه نزل جبريل عليه السلام فيه، ومعرض الوحي المقام عند سفحه، كما ذهبوا بنا إلى مصنع كسوة الكعبة المشرفة، وخرجوا بنا إلى مشارف مكة لنقضي مساء في أحضان الجبال والطبيعة الموحية، وفي الطريق إلى المكان مررنا على المشاعر في منى ومزدلفة وعرفات، ولا أدري ما الذي جعل الأبيات السيارة ذات الألفاظ الجميلة:
ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ
ومَسَّحَ بِالأَرْكانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
وشُدَّت على حُدْبِ المَهَارِى رحَالُنَا
ولم يَنْظُرُ الغَادِي الذي هُوَ رَائحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا
وسالتْ بأعناق المطي الأباطح.
تعرض لي مُتحلِّلة، وكيف كان شعر الفتى القرشي ابن أبي ربيعة يحاصرني من كل جانب، فاللهم عفوك وغفرانك.
لقد كنا خلال أحد عشر يوما من نور، ضيوفا على خادم الحرمين الشريفين، الذي يعرف كيف يكرم ضيوفه، وهل هناك إكرام للمسلم أكبر وأجل من استقدامه إلى الحرمين، ليقضي لبانات الفؤاد المعذب، زائرا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومؤديا مناسك العمرة وطائفا بالبيت العتيق متلوما في المزارات وشاهدا المشاهد؟!
لقد سرنا وأبهرنا كثيرا التقدم الكبير الذي شهدته وتشهده المملكة العربية السعودية، وجو الأمن والأمان الذي تعيشه، وكيف يتدفق إليها ملايين المعتمرين والزائرين بيسر وأمن وأمان، معززة مكانتها العزيزة قبلة ومثابة للمسلمين وركنا ركينا يستندون عليه حين تدلهمُّ الخطوب، فالله يوفق خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، ويحفظهم من كل سوء ومكروه، ويبقي منار الخير واليمن والفضل شامخا في تلك البلاد المباركة.
انقضت أيام النور سراعا، وأذن مؤذن من أهل البرامج، أيها الضيوف إنكم ذاهبون بعد الظهر إلى جدة، فيالله ما أقسى لحظات الوداع
تكلم منا البعض والبعض ساكت
غداة افترقنا والوداع صنوف
ودعنا أم القرى وبلادَ الحرمين وألسنتنا تلهج بالدعاء:
اللهم لا كان هذا آخر عهدنا ببيتك الحرام ومسجد نبيك عليه الصلاة والسلام، واكتب لنا حجك المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة.
* إعلامي وشاعر وكاتب موريتاني