في قفص الاتهام جلسَ الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، كان يرتدي دراعة وقميصًا أبيضين، واستبدل كمامته السوداء بكمامة طبية زرقاء شفافة، عن يساره جلس صهره محمد ولد امصبوع، وإلى اليمين عنه الوزير الأول السابق محمد سالم ولد البشير، يليه في الجلوس الوزير الأول السابق يحيى ولد حدمين.
حين وصل الوزير السابق محمد عبد الله ولد اوداعه؛ هشَّ بيده تجاه الرئيس السابق وبقية المتهمين، دون أن يبادر لمصافحتهم أو مخاطبتهم، لحظات من الصمت تخيم على المكان، قبل أن يدور حديث خاطف بين ولد عبد العزيز وولد البشير وولد حدمين، كان حديثًا أقرب للهمس.
قفص الاتهام عبارة عن حجرة حديدية، منصوبة على مصطبة من الخرسانة، يبلغُ طولها أكثر من عشرة أمتار، وترتفع عن الأرض بحدود المتر لتتساوى مع جلسة القضاة المشكلين لهيئة المحكمة.
في الجانب الخلفي من القفص بابٌ يؤدي إلى حمام داخلي، تبادل عليه المتهمون طوال ساعات الجلسة.
مع بداية الجلسة قدَّم ولد العزيز كرسيه عن بقية المتهمين، حتى لامس بأقدامه قضبان القفص، ظل يتأمل في وجوه الداخلين للقاعة، ويتبادل همسات سريعة مع ولد امصبوع، ربما كان يستغربُ تأخر دخول جميع أفراد فريق الدفاع عنه.
كان الجمهور يجلسُ على مصاطب من الإسمنت عليها ألواحٌ من الخشب، صُفّت على شكل متدرج، امتلأت بالكامل بجمهور قارب تعداده ثلاثمائة شخصٍ، أغلبه من ذوي المتهمين وأقاربهم، مع بعض الصحفيين والمدونين.
أمام الجمهور نصبت مقاعد بلغ عددها 32 مقعدًا، موزعة إلى نصفين، نصف إلى اليسار عن رئيس المحكمة في اتجاه قفص الاتهام خُصّصَ للدفاع، ونصف آخر إلى اليمين عن رئيس المحكمة في اتجاه الادعاء العام، خصص لمحامين الطرف المدني.
في سقف قاعة المحكمة فتحاتٌ تبدو من بعيد صغيرة، ترسلُ في القاعة ضوء خافتًا مع بعض الهواء الرطب، فيما كان الصوتُ يتردد في أرجاء القاعة عبر مكبرات صوت مربوطة بميكرفونات أحدها بحوزة رئيس المحكمة، وواحد لدى الادعاء العام، وواحد مخصص للمحامين.
قبل البداية
وسط الجمهور جلست أسماء بنت عبد العزيز، ثم وجهت التحية إلى والدها الموجود داخل القفص، ثم انشغلت عن النسوة المرافقات لها بسُبحتها وبترديد بعض الأدعية بصوت خافت.
كان صوت أجهزة التفتيش يقطع الصمت الرتيب داخل القاعة، فقد كانت إجراءات التفتيش معقدة جدًا عند بوابة قاعة المحكمة، وعناصر الأمن المشرفون عليها غير متهاونين، خاصة فيما يتعلق بالهواتف وأجهزة التسجيل والتصوير.
إجراءات التفتيش أخرت دخول عدد من أبرز فريق الدفاع عن الرئيس السابق، أحدث ذلك قدرًا من التوتر لدى ولد عبد العزيز، حتى قرر أن يتدخل شخصيًا فطلبَ من محاميه الموجودين في القاعة الاحتجاج حتى يدخل رفاقهم المتبقين، حدثت بلبلة قادتها المحامية اللبنانية سندريلا مرهج.
قررت المحكمة رفع الجلسة لربع ساعة، حتى تتم تسوية أمور المحامين الرافضين للتفتيش، عندها غادرت مرهج وبقية المحامين القاعة، وهي تغادر أرسلت ابتسامة نحو الصحفيين الحاضرين، كانت تحسُّ أنها حققت نصرًا في المعركة الأولى من حرب ستكون طاحنة أمام العدالة الموريتانية.
عند البوابة كان المحامي محمدٌّ ولد أشدو، يرفض فتحَ حقيبته للسلطات الأمنية، محتجا بأن الأمر غير قانوني، انتهى الأمر بدخوله مع بقية المحامين الموكلين بالدفاع عن بقية المتهمين.
البداية الشكلية
انطلقت الجلسة بعد تأخر لعدة ساعات، ولكنها كما كان متوقعًا بدأت بمعارك شكلية، إذ بدا من الواضح أن فريق الدفاع ينتهجُ استراتيجية الإرباك، معترضًا على كل ما يحدثُ في قاعة المحكمة، بينما بدت هيئة المحكمة مرنة كثيرًا في التعامل معه.
بدأ محامو الدفاع معركتهم برفض الجلوس في المقاعد الخلفية، بعد أن دخلوا متأخرين إلى القاعة، فأثار ذلك الكثير من النقاش، اقترح خلاله نقيب المحامين إبراهيم ولد أبتي أن يخلي المحامون الجدد الصفوف الأمامية لزملائهم الأقدم في المهنة، ولكن مقترحه كان محل رفض قاطع من طرفين المحامين.
حينها لجأ رئيس المحكمة إلى حل المسألة بجلب كراسي خاصة بالمحامين، وإخلاء صفين كان يجلس عليهما بعضُ جمهور من ضمنه صحفيون، وهي عملية أخذت الكثير من وقت الجلسة.
بدأت الجلسة بتقديم المحامين لأنفسهم وموكليهم، وحين وصل الدور إلى فريق من المحامين قال إنه موكل من طرف جمعيات غير حكومية لمكافحة الرشوة، ضجَّ فريقُ الدفاع بالرفض، معتبرًا وجود هذه الجمعيات طرفًا في الملف غير قانوني.
أثارت هذه النقطة الكثير من النقاش، وقررت المحكمة أن ترفع الجلسة لأداء صلاة الظهر، على أن تستمع بعد ذلك لمرافعات جميع الأطراف، فكان من أبرزها مرافعة المحامي المختار ولد اعل، التي كسرت رتابة الجلسة، ولأول مرة شوهد ولد عبد العزيز وهو يبتسم.
تفتيش جديد
بعد العودة من صلاة الظهر، وحين استأنفت الجلسة طلب الادعاء العام رفعها من جديد، مطالبًا بتفتيش جديد للحاضرين في القاعة، وهو ما تم ليتم اكتشاف هاتف بحوزة أحد المحامين في الدفاع عن المتهمين، ليتم سحبه من القاعة بسبب مخالفته لأمر القاضي.
حين استأنفت الجلسة، استغل بعض المحامين في فريق الدفاع، المرافعات للمطالبة بإطلاق سراح موكليهم، واصفين التحفظ عليهم في السجن بالإجراء غير القانوني، وهو ما رفضه رئيس المحكمة طالبًا منهم التركيز على نقطة الجمعيات غير الحكومية.
من جهة أخرى اعترض محامون على تفتيشهم “المذل”، من طرف عناصر الأمن، لكن رئيس المحكمة برر الأمر بضرورة ضبط مجريات المحاكمة، مشيرًا إلى أنهم اكتشفوا هاتفًا بحوزة أحد المحامين.
استمعت المحكمة لجميع المحامين في مرافعات مطولة، لتقرر في النهاية رفض طلب جمعيات المجتمع المدني بإدماجها كطرف مدني في الملف، في استجابة واضحة لطلب فرق الدفاع، ولأن إدماجها يفتقد إلى “أساس قانوني”، على حد تعبير المحكمة.
علّق أحد المحامين في حديث جانبي مع أحد الصحفيين الحاضرين، قائلًا إن مجريات الجلسة الأولى “طويلة وشكلية”، مشيرًا إلى أن ذلك سيتكرر كثيرًا خلال مجريات هذه المحاكمة “حتى يتسلل الملل للمتلهفين للمحاكمة”.