أعلنت البعثة الأممية للدعم في ليبيا، الأربعاء الماضي، في بيان رسمي عن مباشرة السيد عبدالله باتيلي مهامه رسميًا مبعوثًا للأمين العام للأمم المتحدة مكلفا بالملف الليبي، وذلك اعتبارًا من تاريخ 25 سبتمبر الجاري، في مسعى لإنهاء حالة فراغ طويلة في هذا الموقع المهم.
ولد السيد باتيلي عام 1947 في قرية (تابو) التابعة لمديرية (باكل) في السنغال، وأكمل دراسته الأساسية في المنطقة، ولم تكن طفولته طبيعية بالكامل، حيث عانى من شظف العيش وصعوبة الحياة، والتحق بمدرسة (سانت لويس) العسكرية حيث قضى سبع سنوات، أهلته للالتحاق بجامعة الشيخ انتا جوب بدكار وهو ابن عشرين عامًا، حيث كانت الأفكار الاشتراكية -يومها- هي الصوت المرتفع والموضة الأكثر جاذبية في أنحاء كثيرة من ربوع القارة الأفريقية، وكثير من دول العالم الثالث.
أصبح باتيلي أحد قادة التنظيمات الطلابية الفاعلة والمؤثرة، فشارك بقوة في الإضرابات الطلابية الكبيرة عام 1968، وتعرض للاعتقال والتجنيد بالقوة في الجيش.
تعتبر مسيرة باتيلي السياسية مهمة جدًا، وفيها الكثير من العبر والدروس، فهو أستاذ تاريخ تخرج سنة 1975 من جامعة برمنهجام البريطانية، حيث أن تكوينه الثقافي والمبادئ اليسارية التي يؤمن بها، انعكسا على حياته السياسية والمواقف التي اشتهر بها.
فمنذ تأسيسه رفقة أصدقائه حزبا سياسيا عرف باسم “الرابطة الديمقراطية”، شغل من البداية منصب السكرتير الثالث المسؤول عن الإعلام والعلاقات الخارجية، الشيء الذي جعل السيد باتيلي يتخذ مواقف حدية وصريحة من قضايا كثيرة في السنغال والمنطقة، كلّفته في مرات عديدة منصبه!
كما شارك باتيلي في حكومة الوحدة الوطنية التي شكل الرئيس عبده ضيوف، فحمل لستة أعوام حقيبة البيئة وحماية الطبيعة، قبل أن يصبح نائبا في الجمعية الوطنية السنغالية (البرلمان).
وعندما فشل في الانتخابات الرئاسية بحلوله رابعا عام 2000، دعم مرشح المعارضة المخضرم عبدالله واد الذي كافأه بأن أسند إليه منصب وزير الطاقة والثروة المائية.
وكان باتيلي نائبا نشطًا ومثابرًا طيلة وجوده في الجمعية الوطنية، حيث قاد تصويتًا ضد العفو عن الأفراد المتورطين في اغتيال نائب رئيس المجلس الدستوري باباكار سي عام 1993.
وما لبث السيد عبد الله باتيلي أن اختلف بشدة مع الرئيس عبدالله واد، حينما عين الأخير ابنه كريم واد وزيرًا في الحكومة، فاعتبر باتيلي ذلك انتكاسة كبيرة للشفافية، ونجاحًا لما أسماه (إدارة الأسرة)، وهي تختلف بلا شك عن إدارة الدولة، وفق رأيه.
لذلك دعم مرشح المعارضة السيد ماكي صال عام 2012، في مواجهة عبدالله واد، حيث تلقى هذا الأخير هزيمة ثقيلة أخرجته من المشهد السياسي أو كادت!
بعد انتخابات 2012 عين ماكي صال السيد باتيلي وزير دولة برئاسة الجمهورية.، إلا أن العمل الداخلي أصبح لا يروق كثيرا للسيد باتيلي، فمنذ 8 يوليو 2013 توجه نحو العمل الدولي، حيث عينه بان كي مون الأمين العام السابق للأمم المتحدة نائبًا لممثله في أزمة مالي.
وبدأ منذ ذلك الوقت مسيرة لافتة في العمل الدولي من خلال رئاسته لأكثر من مهمة أممية ترك فيها بصماته بشكل إيجابي.
يعرف عن السيد عبدالله باتيلي الصرامة والالتزام، وعاش حياة متوسطة هادئة و خالية من شبهات الفساد المالي أو الإداري.
بما أن الفكر اليساري الاشتراكي قد انتشر بشكل كبير في القارة الأفريقية، حيث وجد له أرضية خصبة، وخصوصًا عند الجيل الذي ارتبطت مراهقته السياسية بمرحلة التحرر من الاستعمار الغربي، والنضال من أجل التحرر الوطني في أفريقيا، خلال خمسينيات وستينيات وسبعينات القرن الماضي، فليس بالغريب أن يكون السيد باتيلي أحد من استقطبتهم واستهوتهم الأطروحات الاشتراكية وأفكار اليسار عموما.
لهذه النخبة اليسارية مبادئ وأخلاق تميز علاقاتهم الإنسانية وتعاونهم مع الآخرين.
ومما لا شك فيه أن للسيد باتيلي انطباعاته الإيجابية إلى حد ما عن الشخصية الليبية بشكل عام، ويكن لها احترامًا وتقديرًا كبيرين، رغم أنه يعرف من الليبيين أشخاصًا محدودين ربما لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، وربما كان أحدهم هو الأقرب لقلبه ومحل ثقته بحكم معرفتهما لبعضهما عن قرب منذ زمن طويل، ويتقاسمان نفس المبادئ والأفكار الوطنية التحررية!
تعرف الأزمة الليبية حالة تحور دائم من طور إلى طور، وتتبدل فيها المواقف والتحالفات بشكل يصعب تفهمه واستيعابه، حتى أصبح من الصعب معرفة من مع من ومن ضد من، ومع كل هذا أصبحت هنالك تجارب بعد جولات اتفاق الصخيرات وجنيف يمكن الاستفادة منها، لتجاوز الأخطاء السابقة التي حصلت في الجولات المشار إليها.
لقد كان من الصعب على مجلس الأمن الدولي أن يتفق على مبعوث أممي جديد، لذلك طرحت عدة أسماء سرًا وعلانية، ولكن عدم الاتفاق كان هو السمة الغالبة.
وربما تكون الصدفة قد أخذت نصيبها في اختيار عبدالله باتيلي، حيث كلفه الأمين العام للأمم المتحدة غويتيرش منذ أشهر طويلة بأن يقيّم أداء البعثة الأممية للدعم في ليبيا، وقام باتيلي بجهد مضني في هذا الأمر، ونفذ زيارات متعددة، وقدّم أفكارًا رائعة تتسم بالطابع العملي للأمين العام، جعلته يفكر في ترشيحه لهذا المنصب الحساس، وخصوصا مع النداء الأفريقي المتكرر بأن يكون هناك دور ما للاتحاد الأفريقي أو مبعوُ إفريقي للأزمة الليبية.
ومما لاشك فيه أن منظومة المجتمع الدولي، ممثلة في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، تمر بأزمة عميقة جدًا لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، لذلك سيكون للتجمعات الإقليمية والقارية دور هام في المستقبل القريب في معالجة القضايا، بحيث يتم ترحيل معظم المشكلات الدولية لمنظومتها الأم، حتى تجد طريقا سالكا للحل، بدل إبقاءها في دهاليز الأمم المتحدة.
وقد تكون هذه فرصة حقيقية لو أجاد الليبيون اغتنامها، بحيث يمكنهم إعادة جزء مهم من الأزمة الليبية إلى الداخل، بعد أن أصبحت اللعبة الدولية هي المتحكم في تفاصيل الأزمة للسنوات الأخيرة. وهذه الرغبة موجودة عند أطراف كثيرة ترى أن الجزء الأكبر من تعقيد الأزمة هو في ثقل التدخل الخارجي المتعدد الأطراف.
ومن المؤسف أنه في مثل هذه الظروف التاريخية التي تمر بها ليبيا، تبرز الحاجة لنخب حقيقية واعية ومدركة لحقيقة الأزمة، وتستطيع أن تتغلب على عواطفها ومشاعرها وتقدم المصلحة الوطنية على المصلحة الخاصة، والشيء المؤكد أن كثيراً ممن هم في المشهد السياسي الحالي فقدوا بريقهم وتآكل رصيدهم بسرعة، وأصبح الكثير منهم أثرًا بعد عين.
ختاما، ليس من السهل توقّع أو استشراف المستقبل في الأزمة الليبية، بسبب كمية التعقيد والتدخلات التي تحيط بها، ومع ذلك فهي ليست بالصعوبة التي تستعصي على الحل أو تحقيق قدر كبير من النجاح، بل بالإمكان تمهيد الطريق أمام خطوات أعمق تعيد الطريق أمام الليبيين لبناء مؤسساتهم واختيار شكل نظام الحكم الذي يناسب خصوصيتهم الحضارية والثقافية.
ويظل دور الأمم المتحدة مهمًا بكل المقاييس، ويمثل الرمزية الدولية، ويمكنه أن يكون حكمًا عادلًا ومسهّلًا حقيقيًا بين الأطراف لبناء الثقة وتجاوز الماضي، وهذا ممكن جدا إن صفت النيات.
ومن يعرف السيد عبدالله باتيلي عن قرب يتحدث بثقة وطمأنينة أن الرجل ليس من النوع الذي يمكن مساومته وتوجيهه بالريموت كنترول، وله قناعات راسخة، ولا شك أن مساره وسيرته الذاتية التي أستعرضنا نماذج منها في هذا المقال، تدل على مواقف قوية ليس من السهل على السياسي التقليدي اتخاذها.
إن المهمة التي كلف بها السيد عبدالله باتيلي هي الأصعب في تاريخ حياته السياسية، وإذا نجح في تحقيق نجاح واضح وملموس فيها، فإنه سوف يرفع من أسهمه إقليميا ودوليا.. فهل سيفلح في ذلك؟ الأيام كفيلة بالإجابة!