مات محمد عبد العزيز ومات معه الكثير من الأسرار، ولكن موته أحيى أسئلة عديدة في أذهان من يراقبون المشهد في مخيمات تيندوف، كما أحيى علامات استفهام كبيرة رافقت جنازته وهي تغادر الأراضي الجزائرية لتوارى الثرى في “بير لحلو” داخل الأراضي المغربية، لتنتهي قصة كُتبت في الجزائر وشاءت لها الأقدار أن تدفن في صحراء المغرب.
بالعودة إلى المراحل الأولى من حياة محمد عبد العزيز يتضح مدى التناقض الذي رافقه طيلة حياته التي قضاها في منفاه الاختياري، فقد وُلد عام 1947 بمدينة مراكش لعائلة من قبيلة الركَيبات، اشتهرت بإخلاصها للعرش العلوي فقد كان والده الخليل بن محمد البشير ضابطَ صف في الجيش المغربي.
عاش محمد عبد العزيز أو محمد الركَيبي كما كان يسمى خلال فترة الشباب، كأي طفل مغربي احتفلت عائلته بالاستقلال وخروج المستعمر الفرنسي، كما فرحت بخروج الاستعمار الاسباني من أقاليم الجنوب، في هذا الجو بدأ محمد الركَيبي يتلمس بعنفوان الشباب أحلامَ المستقبل المشرق، حين تنقل بين المدن المغربية الكبيرة لإكمال دراسته الجامعية في كلية الطب.
لم يكن الفتى الذي لا تخفي ملامحه الحادة حبه وشغفه بالحياة، ليدرك أن الأيام تخبئ له انحرافاً بهذا القدر من الحدة في مسار حياته، ولم يكن ليتوقع أن يوميات جامعته الرتيبة ستحمل له هذا الكم الكبير من المفاجئات، ولكن شغفه بالظهور وحبه للقيادة جعله يندمج بسرعة كبيرة في أنشطة بعض الشباب الذين يرفعون راية النضال الصحراوي.
كان العالم في أواخر ستينيات القرن الماضي يعيش حمى حركات التحرر وهوس النضال، والشباب العربي المصدوم من هزائم حروب الشرق الأوسط يتطلع إلى تقليد شخصيات مثل تشي غيفارا وفيدل كاسترو، أولئك الأبطال الذين صورتهم آلة إعلام اليسار السياسي كأبطال يدافعون عن المظلومين في شتى أصقاع العالم؛ في هذه الظروف كان من السهل أن يخطف بريق أفكار التحرر والنضال بصر شاب مفعم بالحماس وحب القيادة.
في ظرف وجيز برز اسم الشاب محمد عبد العزيز ليكون من ضمن مؤسسي جبهة البوليساريو عام 1973 رفقة أول رئيس للجبهة مصطفى السيد الولي؛ ولكن التوجه الجديد لمحمد الركَيبي مثل خيانة لعائلته التي رفضت هذا المسار مؤكدة تمسكها بالوحدة الترابية للمغرب؛ ليجد نفسه رفقة اثنتين من أخواته في مخيمات تيندوف بعيداً عن دفء العائلة وحضنها.
بعد ثلاث سنوات من تأسيس الجبهة قتل مؤسسها خلال هجوم على العاصمة الموريتانية نواكشوط، ليجد محمد عبد العزيز نفسه القائد الجديد للجبهة في بداية مرحلة ستستمر لأربعين عاماً اكتشف خلالها أنه دخل في لعبة أكبر منه، وأن حجم الخديعة كان أكبر من أن ينتبه لها وهو في ريعان شبابه، لقد وجد نفسه أداة في يد قوى إقليمية هو أعجز ما يكون عن مواجهتها.
كانت الجزائر التي توفر للجبهة الغطاء العسكري والسياسي والمادي تحركها من أجل تحقيق مكاسب استراتيجية في منطقة غرب أفريقيا، ولعل من أبرز تلك المكاسب الحصول على منفذ على المحيط الأطلسي والانفتاح على الأسواق العالمية الكبيرة لنقل النفط والغاز.
أما الزعيم الليبي معمر القذافي فقد كان يجد متعة كبيرة في رعاية حركات التحرر عبر العالم إرضاء لكبرياء نفسية ولإشباع صورة ملك ملوك أفريقيا وقائد ثورة الجماهير، كما أنه لا يتورع عن استخدام هذه الحركات من أجل تصفية الحسابات مع الأنظمة التي ترفض الرضوخ لغطرسته.
هكذا وجد محمد عبد العزيز نفسه دمية في يد قوى إقليمية لا تقيم وزناً لمشروعه النضالي، ولكنه ظل عاجزاً عن مراجعة مواقفه حتى لا تتفرق من حوله جماعته فيخسر الأبهة التي أنفق شبابه في صناعتها، وحتى لا تتخلى عنه الجزائر بعد أن فقد أموال القذافي.
ولكن التحولات على الساحة الإقليمية والدولية فرضت عليه التخلي عن السلاح عام 1991، ليعلن بشكل غير مباشر موت “جبهة البوليساريو” التي تحولت مع مرور الوقت إلى هيئة لجمع التبرعات والمساعدات في المحافل الدولية باسم “الشعب الصحراوي” المحتجز في مخيمات جنوب غربي الجزائر.
كانت الصحراء الكبرى مستنقعاً كبيراً وغابة موحشة، خاصة بعد تحولها إلى ممر لشبكات تهريب المخدرات من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا وإسرائيل، وأصبحت هذه الصحراء القاحلة والجرداء مصدر ثراء سريع بالنسبة لمن يملكون نفوذاً يمكن استغلاله في حماية المهربين، وهكذا ارتبطت أسماء قيادات في جبهة البوليساريو ببعض شبكات تهريب المخدرات، ما وضع الجبهة في مأزق كبير.
ولكن الضربة الأقوى التي تلقاها الرجل هي ارتباط عدد من قيادات جبهته بجماعات إرهابية تنشط في منطقة الساحل الأفريقي، وقد وصل هذا الارتباط إلى تنفيذ عملية اختطاف استهدفت مواطنين غربيين داخل مخيم الرابوني عام 2011، وقد أكدت تقارير أمنية عديدة وجود هذه الصلة الوثيقة.
بالإضافة إلى ما سبق كانت هنالك ملفات كثيرة هزت فترة قيادة محمد عبد العزيز لجبهة البوليساريو، ولعل من أبرزها ملفات حقوق الإنسان في المخيمات بعد قمع مئات الشباب الرافضين لطرح الجبهة والساعين إلى تحقيق التغيير بعد عقود من قبة الحديد التي تمسك برقابهم، هذا عدا عن ملفات الفساد التي تورط فيها الكثير من قيادات الجبهة، خاصة فيما يتعلق بالاستيلاء على المساعدات الإنسانية وتحويلها إلى ممتلكات خاصة وبيعها في أسواق شبه المنطقة.
ولكن اللافت هو الهوة الكبيرة التي تفصل بين الثراء الفاحش لقيادات جبهة البوليساريو والفقر المدقع الذي يرزح تحته سكان المخيمات، فالتقارير تتحدث عن قصور وممتلكات تقدر بملايين الدولارات تحت اسم محمد عبد العزيز في الجزائر ومدريد وجزر الكناري ونواكشوط؛ فمن كان يتوقع أن تلك البزة العسكرية الداكنة واللثام الصحراوي الشاحب يخفيان تحتهما واحداً من أكثر رجال شبه المنطقة ثراءً.
الآن وبعد أن غاب الرجل بدأت تتضح معالم المعادلة التي حكم بها جبهة البوليساريو والتي تقوم على محاصصة قبلية تتجاوز كل الشعارات الثورية التي ترفعها الجبهة، كما أنه استفاد من صراع الأجنحة داخل الجبهة ما مكنه من خلق حالة فراغ كبير في دائرة الحكم الضيقة، ما يجعل التكهن حول من سيخلفه أمراً صعباً وستكون المباركة الجزائرية هي من سيرجح كفة أحد المرشحين.
باختصار إن النظام الذي أقامه الرجل طيلة أربعين سنة لا يمكن أن يديره غيره، لذا فإن كل من سيأتي من بعده سيضطر إلى تكسير شيء ما ليخلق نظامه الخاص.