جلس الرئيس السنغالي ماكي صال في عريش صنع من نبتة البردي، على حصير متواضع، قبالته يجلس على كرسي خشبي مغطى ببطانية حمراء عتيقة، رجلٌ نحيف في الثمانين من العمر، أنيق بوقار وهادئ بحكمة، إنه تييرنو صمبا تال، الرجل الذي أخذ في حضنه قبل ستين عاما وليدا، وأعلن اسمه أمام والديه: «ماكي».
كانت لحظة عاطفية، كما وصفها الرئيس السنغالي، وهو ينشر صورة للقاء عبر صفحته الشخصية على الفيسبوك، متحدثا بكثير من الاحترام والتقدير عن تييرنو صمبا تال، معلنا أنه من اختار اسمه بعد ولادته، كان ذلك في شهر ديسمبر من عام 1961، في منطقة «فاتيك» وسط السنغال.
كان تييرنو صمبا تال يمسك بيد الرجل الذي اختار اسمه، ويستجيب لطلبه بالدعاء له بالتوفيق، فالطفل أصبح رئيسا للبلاد، ربما كان نفس الدعاء الذي طلب منه والداه حين حمله بين يديه قبل ستين عامًا، فيما كان «ماكي» يجلس القرفصاء في الأسفل، ونظره إلى الأرض، احتراما للشيخ الجالس أمامه.
تفاعل السنغاليون مع اللقاء، وكثرت التعليقات عليه، مستحضرة «وفاء» رئيسهم للتأثير الذي خلفه تييرنو صمبا تال في حياته، وهو الذي ينحدر من أسرة تعد واحدة من العائلات الدينية التي تركت تأثيرًا كبيرا في تاريخ غرب أفريقيا، وأقامت واحدة من أقوى وأكبر الامبراطوريات الإسلامية في شبه المنطقة، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
تييرنو صمبا تال شخصية معروفة في منطقة «فوتا تورو»، تنقل في السنغال كشخصية دينية لها مكانة خاصة، وتربطه علاقات قوية مع أسرة ماكي صال، فوالد الأخير كان ينحدر من منطقة «فوتا تورو» ويقال إنه كان يملك فيها أراضي شاسعة، بينما كانت تنحدر والدته من محاربي «فوتا» المعروفين بالشجاعة والقوة.
بل إن ماكي نفسه تلقى تعليمه الابتدائي في «فوتا تورو»، فارتبط بهذه المنطقة ذات التاريخ الممتد على ضفتي نهر السنغال، الشمالية والجنوبية، وكانت قرية «آيري لاو» الصغيرة هي مركزه.
حين مر الرئيس السنغالي بالقرية في «جولة اقتصادية» قادته إلى مدن الشمال، قرر أن يتوقف ويبحث عن جزء من تاريخه الشخصي، عن الرجل الذي كان شاهدا على وصوله إلى العالم، واختار له الاسم الذي سيذكره جميع السنغاليين، حين انتخبوه رئيسا للبلاد عام 2012.
عقد ماكي صال خلال جولته العديد من الاجتماعات واللقاءات، ولكن لقاء ذلك العريش المتواضع، كان الأكثر تغطية إعلامية في السنغال، والحدث الذي علق في أذهان السنغاليين وهم يتابعون جولة تحدث فيها رئيسهم عن الزراعة والاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، إلا أن كلماته عن هذا «الشيخ الوقور» كانت أكثر حضوراً في وسائل الإعلام المحلية.
يهتم السنغاليون كثيرا للمشايخ والعلماء، ويقدرون من يقدرهم، ولكنهم يهتمون أكثر للعلاقات الشخصية التي تربط الكبير بالصغير، وهي أمور استحضروها حين نشرت صورة الرئيس رفقة تييرنو صمبا تال، فتنوعت تعليقاتهم ما بين الثناء على تواضع الرئيس وموقفه الإنساني، والإشادة بتقديره لكبار السن ورجال الدين.
آخرون ذهبوا إلى استحضار تاريخ قرية «آيري لاو» التي اختارها عبد القادر كان وسليمان بال لتكون عاصمتهم وهم يضعون أسس الدولة الإمامية عام 1776، أي أن هذه القرية التي تقول الروايات التاريخية إنها تأسست في القرن الحادي عشر الميلادي، كانت أول عاصمة للدولة الإمامية التي تأسست في منطقة «فوتا تورو».
كانت الدولة الإمامية حالة فريدة من نوعها، فهي أول دولة تطبق الشريعة الإسلامية في غرب أفريقيا، وتعتمد النظام الانتخابي لاختيار زعيمها «الإمام»، وأول دولة في العالم تحرم العبودية وتحارب تجارة الرق، وسبقت في ذلك الثورة الفرنسية، انطلق كل ذلك من قرية «آيري لاو» الصغيرة.
لسنوات عديدة ظلت «آيري لاو» عاصمة الدولة الإمامية، وأصبحت بفضل ذلك ملتقى طرق ونقطة التقاء ثقافي وعلمي هام في منطقة غرب أفريقيا عموما، ومنها تحركت الجيوش لنصرة الحاج عمر الفوتي حين كان يقيم أركان امبراطوريته منتصف القرن التاسع عشر في حوض نهر النيجر.
كان من بين الذين لبوا «نداء الجهاد» الذي أطلقه الزعيم التكروري الحاج عمر الفوتي وخلفاءه من بعده، رجل اسمه «عمر تفسيرو با»، غادر منطقة «فوتا تورو» نهاية القرن التاسع عشر، وهو في الطريق رزق عام 1890 بولد سماه «محمدو زين الدين»، ولكن الطفل حمل لقب «ابن الجهاد».
بعد أن سقطت امبراطورية التكرور، وهيمن الفرنسيون على المنطقة، عاد الطفل إلى قرية «آيري لاو»، وفيها حفظ القرآن الكريم وتلقى العلوم الإسلامية، وكان يتنقل بين مدن «فوتا تورو» للتربية وفق الطريقة التيجانية، وزار عدة مرات مدينة «بوغي» في الضفة الشمالية.
توفي الحاج محمدو زين الدين با» عام 1953، ودفن في قرية «آيري لاو»، ليبقى ضريحه مزارا سنويا لآلاف المسلمين، في مناسبة يحتفلون خلالها بعيد المولد النبوي الشريف، ويستذكرون التاريخ المدفون في قريتهم الصغيرة، النائمة على ضفاف نهر السنغال.
استحضر الرئيس السنغالي هذا التاريخ حين أعلن، أمس الثلاثاء، الشروع في دراسة مشروع تشييد جامعة في منطقة «فوتا»، شمالي السنغال، مختصة في دراسة وتدريس «التاريخ والثقافة»، فيما دعا الفنان المعروف بابا مال إلى أن تحمل الجامعة اسم «الحاج عمر الفوتي».