ليست هذه ورقة من تلك الورقات التي تقتل موضوعها بحثا، فأقصى ما تطمح إليه أن تستفزه لاغير. على أن استفزاز موضوعنا هذا قد لا يكون بالأمر اليسير، بالنظر إلى التداخلات الصميمية بينه وبين حقول معرفية شتى، لسانية دلالية وفولكلورية تراثية وانتروبولوجية وإعلامية تواصلية. وأنتم تعلمون أن من عادة الأكاديميين في مثل هذه المواقف، وهم يفتقرون غالبا إلى النصف الأسهل من العلم (الذي هو لا أدري) أن يلجأوا إلى المراوغة والحيلة عبر لعبة التفكيك والتصنيف حتى يطول الكلام ويمل السامع وربما خيل إليه أن المتدخل قال شيئا ذا بال. وهذا بالضبط ما سنحاوله الآن. إضافة إلى هذا الاعتراف الأول، نود أن نسوق اعترافا ثانيا مؤداه أن وقت الإعداد لهذه الندوة لم يتسع للاطلاع على النصوص موضوع الدرس، ومن ثم فإن المرتكز في هذه الورقة سيكون، بالأساس، على ما علق بالذاكرة من قراءة للجريدة تختلف انتظاما من حين لآخر، فنحن أمام انطباعات ذاتية تدين بكل شيء تقريبا للاستبطان. حين أحاول استحضار أنماط الشخصيات في جريدة اشطاري يحضرني صنفان من الفاعلين: – هناك الشخصيات الطبيعية أو الاعتبارية التي يخلقها طاقم التحرير صدى للوقائع والأحداث الوطنية: داداه ولد مكيه، رئيس حزب الوثافة الديمقراطية الاجتماعية، آية الله أغربطاني، عمدة طهران، وهذا الصنف من الفاعلين ليس موضوع حديثنا هنا بالرغم من أهميته التواصلية ومما يخلقه من اختصارات (بالمعنى المعلوماتي) بين الباث والمتلقي. – وهناك الشخصيات – الرموز التي يستضيفها التحرير من حين لآخر قي مقابلات خاصة مثل ولد الجنبه وطويص وفظمة وتيبه وعزبة البحر، أو يكتتبها للعمل في هيئة التحرير مثل الحاظر بناظر …إلخ هذه الشخصيات الرمز هي ما نود التوقف عنده الآن.
الرمز والأنساق الثقافية ودون الخوض كثيرا في ماهية الرمز نرى أن نقتصر على تعريف واحد يخدم وجهة بحثنا هو ما نجدعه عند بيرس الذي يعرف الرمز بأنه العلاقة الثابتة، داخل ثقافة معينة، بين عنصرين . معنى ذلك أن ما يكون رمزا لأمر ما في ثقافة ما لا يستحيل أن يكون رمزا للعكس في ثقافة أخرى، أو في الثقافة نفسها في عصر آخر. فنحن نجد، على سبيل المثال، في بعض التقارير الإخبارية التي تصدر عن البلد مركزة على البعد العجائبي تقريرا عن عادات الزواج عند الموريتانيين وكيف يلبسون المرأة ثوبا أسود إلخ …وهو سلوك يقابل من لدن المشاهد العربي بالكثير من الاستهجان. ومع ذلك، فقد كانت هذه عادة العرب، وأنتم تعرفون قول غيلان:
وليل كجلباب العروس ادرعته بأربعة والشخص في العين واحد أحم غدافي وأبيض صـــارم وأعيس مهري وأروع ماجــــــــد وإذا كان وجود الرمز مشروطا بأن يكون داخل ثقافة ما، فمعنى ذلك بصيغة أخرى أن الرموز لا توجد سابحة في الفراغ، بل هي مندمجة في الأنساق الثقافية والاجتماعية وإن كان المستخدمون لا يعون في أحيان كثيرة متانة الصلات بينها وبين هذه الأنساق. يمكن أن أسوق هنا مثالا نبهت إليه من قبل في نقاش بحث من البحوث الجامعية: لو أخذنا مثال (فظمة) التي كانت جريدة اشطاري قد استضافتها في حوار مطول صرحت فيه بأنها مشاركة في كافة قطاعات الحياة الوطنية، فإن الرواية الشعبية تثبت لها أخوات ثلاثا هن أم أكسي والرهواجه وانجهاو. وليس يخفى، من الوجهة اللسانية المحض، الاختلاف بين مسميات الأخوات، ففظمة في نطق بعض قبائل البربر تعنى فاطمة فالبعد البربري فيها واضح. أما تسمية أم كسي (تصغير الكساء) فعربية وكذلك الرهواجه، أم انجهاو فتحيل على المكون الإفريقي. وقد لا يخلو التناسب بين الأسماء وترتيبها من دلالة اجتماعية. كانت الغاية من هذا المثال أن ننبه إلى أن استخدام هذه الرموز في صحيفة سيارة لم يكن بالعفوية التي قد تتبادر إلى الذهن، والتي يحاول خطاب الجريدة، في تباله مكشوف، أن يوحي بها. فخلف هذا التباله يتمترس حس اجتماعي رهيف، يدرك الآليات التي يستخدمها المجتمع لاستيعاب كل خطاب جديد وإعادة صياغته وفق القوالب الموروثة، ومن أكثر هذه الآليات فعالية جعل الجديد موضوعا للسخرية.
في السياق الثقافي الاجتماعي صحيح أن للمجتمع آليات أخرى لاستيعاب الجديد غير السخرية ولكن السخرية تظل في كثيرمن الأحيان السلاح الأكثر فتكا والأقل خسارة والأقرب إلى متناول الجميع. يذهب بعضهم، مثلا، إلى أن نظام القبيلة بموريتانيا استطاع دائما أن يستوعب المحاولات الرامية إلى تجاوزه كالإمارة والطريقة الصوفية، فبعد جيل التأسيس تتماهى الإمارة أو الطريقة مع القبيلة ونعود إلى نقطة المنطلق . ولا شيء في ظني يحول بيننا وبين إضافة الدولة الوطنية إلى هذا الثنائي، فقد استطاعت القبيلة في وقت قياسي أن تعيد ترتيب البيت القبلي على غرار الدولة وأن تفرض نفسها على الفرد بديلا للدولة. في هذا السياق اكتسب المفهوم الأساس للدولة (مفهوم المواطنة) معنى تنقيصيا ساخرا. فالمواطن اليوم تعني في الاستخدام الجاري عندنا (من ليس مهما) وإذا أردنا ترجمتها إلى لغة ما قبل الدولة الوطنية فهي تعني بمعنى ما (مسلم مولانا أو مخلوق الله) وما شاكل ذلك من الألفاظ. ومن ثم نجد، في مجال السياسة، أن الخطابات التجديدية و الدعوات إلى الإصلاح تنبز، أحيانا، بكونها (بناء للوطن) هذه بإيجاز هي أبرز ملامح السياق الذي ظهرت فيه اشطاري، وبفضل حسها الاجتماعي الذي أشرت آنفا، بنت استيراتيجيتها على الهجوم حتى لا تجد نفسها في موقف الدفاع. بنت استيراتيجتها على السخرية من المجتمع قبل أن يسخر منها. ولكي تكون هذه السخرية فعالة لم يكن بد من أن تتأسس على أرضية مشتركة بين من يبث الخطاب ومن يتلقاه، وهذه الأرضية هي الرمز. والواقع أن ثمة أمرا يغيب عن كثير من منتجي الخطاب، خلاصته أن البشر ما عدا استثناءات قليلة قد أنعم الله عليهم بأنهم لا رأي لهم ولا ذوق، فليس لهم من الحصافة ما يمكنهم من تكوين رأي وإنما تبنى آراؤهم التي، هي في النهاية الرأي العام، عبر وسيط لاغنى عنه هو الرمز، اجتماعيا مشخصا كان أم ثقافيا مجردا. يقول الجاحظ: “ولو أن رجلا ألزق نادرة بأبي الحارث جميز والهيثم بن المطهر…. وكانت باردة لجرت على أحسن ما يكون. ولو ولد نادرة حارة في نفسها مليحة في معناها ثم نسبها إلى صالح بن حنين وإلى ابن النواء وإلى بعض البغضاء لصارت باردة ولصارت فاترة فإن الفاتر شر من البارد” معنى ذلك أن الفرد العادي لا يكون آراءه في الغالب إلا عبر وسيط مشخص أو مجرد يسلم له القياد ويطمئن إلى تقليده. وهذا الوسيط في حالة جريدة اشطاري هو الرمز التراثي الذي يمتاز عن الرموز المشخصة (الزعامات السياسية والتقليدية، السلطات المعرفية، المشاهير) بتساميه على الملابسات الظرفية و بكون المسافات بينه وبين المتلقين متساوية. كيف يتم استغلال هذا الرمز؟ الواقع أن ذلك يتم ن عادة بغير صعوبة تذكر، عبر الآلية المعهودة في كل الإبداعات، أعني تحقيق انزياح عن النموذج الأصل. وهذا الانزياح يكون أحيانا حلقة في سلسلة انزياحات بين الثقافة الشعبية المحلية والثقافة الأم، فكثير من الرموز يمكن تتبع أصوله التراثية. لنأخذ مثلا صاحب الزيت – على المشهور- أوصاحبة الزيت كما يقال أحيانا فلكل منهما أصوله في الروايات: يقول علي بن حمزة في كتاب التنبيهات نقلا عن ابن الأعرابي: “ذات النحيين امرأة من هذيل قدمت سوق المدينة بنحيين من سمن تبيعهما، فأتاها خوات بن جبير، أحد بني عمرو بن عوف من الأنصار، فاستذاقها أحد النحيين، ففتحته وأمسكته بيدها ثم استذاقها الآخر فلما فتحته أخذ برجليها فقضى حاجته ثم شرد وقال: وأم عيال واثقين بعقلهــــــــــــــــا خلجت لها جار استها خلجات شغلت يديها إذ أردت خلاطــها بنحيين من سمن ذوي عجرات فشدت على النحيين كفي شحيحة على سمنها والفتك من فعلاتي (…) ثم أسلم خوات وشهد بدرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خوات كيف شرادك؟ وتبسم (ًص) فقال: يا رسول الله رزق الله خيرا وأعوذ بالله من الحور بعد الكور” هذه الحكاية المتداولة كثيرا في كتب الثراث تجري تبيئتها تبعا لحاجات الثقافة المحلية وقد تنسب إلى فلان بعينه في مكان بعينه، وهي حكاية (مولاة الزيت) أما (مولى الزيت) فيروي لنا عنه محمد بن إسحاق النديم صاحب الفهرست، في حديثه عن صابئة حران، ما يلي: “حكاية في الرأس: إنه رأس إنسان … يؤخذ بحيلة وبغيلة فيقعد في الزيت والخل حتى تسترخي مفاصله وتصير في حالة إذا جذب رأسه انجذب من غير قطع، ويزعمون أنه يجيب عما يسأل عنه. ولذلك يقال فلان في الزيت. مثل قديم. هذا إذا كان في شدة ” ونحن لا نستبعد انتقال هذا المثل إلى الحسانية بدليل انتقال ألفاظ مساوقة له عربية وفارسية إلى الحسانية. مثال ثان لهذا الانزياح: يقصد بالمثل (ألعك من طويص) عادة الحدة وسرعة الغضب، وقد يفسرون الطويص تفسيرات مختلفة. والواقع أن لفظ (اللعك) يدل في الحسانية على الحدة وسرعة الغضب ولكنه يدل أيضا على الشؤم، وهذا أصل المثل: أشأم من طويس، يعنون طويسا المغني الذي يروون عنه تلك الرواية المشهورة. وإذا كانت شخصيات الثقافة الشعبية تمثل انزياحا عن الشخصية التراثية، فإن استخدامها في مثل ما استخدمتها فيه الصحيفة الساخرة يقوم على تحقيق انزياح آخر محدد الهدف، يستدعي الشخصية التراثية ليقحمها في قضايا حاضرة غريبة عليها، ويوجه من خلالها سهامه الساخرة إلى المجتمع . يحقق هذا الانزياح غايات متعددة: فالباروديا أو الأسلبة الساخرة للغات بالمفهوم المعروف لدى ميخائل باختين تتأتى أساسا من تشخيص هذه اللغات ووضعها في سياقات تجعلها موضوعا للسخرية لخلوها من المعنى. ومن جهة أخرى لا يخفى أن استحضار هذه الشخصيات – من الوجهة التحريرية المحض – يخفف الأعباء بما لا يقاس، ويجنب المحرر عناء اصطياد الفضائح التي هي ضالة الصحف الساخرة، ويجنبه فوق ذلك المساءلة القانونية ما دامت ما دامت أطراف أساسية في الموضوع – هي الشخصيات التراثية – متعذرة المثول أمام القضاء. ——————————————
[1] بخصوص بيرس، يمكن الرجوع إلى “مدخل إلى السيميوطيقا” إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، الجزء الأول، شركة دار إلياس العصرية، ص 172
[1] ديوان غيلان،
[1] من أول من سمعنا منه هذا الرأي الأستاذ عبد الودود ولد الشيخ في محاضرة عامة بالمدرسة العليا للتعليم سنة 1987.
[1] الجاحظ، كتاب البخلاء، تحقيق طه الحاجري، دار المعارف، ص 40 (مقدمة التحقيق)
[1] علي بن حمزة، كتاب التنبيهات على أغاليط الرواة، تحقيق عبد العزير الميمني الراجكوتي، دار المعارف ، د ت. ص 314.
[1] محمد بن إسحاق النديم، كتاب الفهرست، تحقيق رضا تجدد، طهران، 1971، ص 386
*ورقة مقدمة للندوة المنظمة بالتعاون بين جامعة نواكشوط وجريدة اشطاري في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمناسبة الذكرى 15 لتأسيس الصحيفة الساخرة. 25 نفمبر 2008. |