ساد الهدوء شوارع العاصمة المالية باماكو، مساء اليوم الثلاثاء، بعد يوم ساخن بدأ بتمرد عسكريين غاضبين وسيطرتهم على معسكر «كاتي» القريب من العاصمة، والذي يعد واحداً من أكبر الثكنات العسكرية في البلاد، وانتهى باعتقال الرئيس إبراهيم ببكر كيتا، دون أن يتم الإعلان رسمياً عن تعطيل العمل بالدستور، أي الدخول في مرحلة «الانقلاب العسكري».
قادة التمرد العسكري أقدموا على اعتقال عدد من كبار قادة المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى الوزير الأول بوبو سيسيه، وعدد آخر من الوزراء وكبار المسؤولين، كما سيطروا على مبنى الإذاعة والتلفزيون، التي توقفت عن البث في وقت لاحق من اليوم.
وانتشرت في الشوارع آليات الجيش على متنها جنود مدججون بالسلاح، وسط احتفالات شعبية كبيرة، قادها شباب ناشطون في صفوف الحراك الخامس من يونيو المعارض، الذي كان يطالب باستقالة الرئيس إبراهيم ببكر كيتا، فيما التزم قادة الحراك المعارض الصمت حيال الأحداث التي شهدتها البلاد.
وحاول قادة التمرد العسكري منذ البداية الحصول على دعم الشارع الغاضب في مالي، فيما دعت الحكومة في بيان مقتضب منتصف النهار إلى «الحوار» و«إسكات السلاح»، محذرة من وقوع «أضرار لا يمكن إصلاحها»، ولكن دعوتها لم تجد أي آذان صاغية لدى القادة الجدد في باماكو.
الزعيم الجديد !
لقد حمل التحرك العسكري في باماكو منذ الساعات الأولى صفة التحرك الفوضوي، إذ بدا واضحاً أنه لا يعمل وفق خطة عسكرية واضحة، كما هو معهود في الانقلابات العسكرية في مالي وأفريقيا، فلم تتم السيطرة في البداية على التلفزيون الحكومي، كما لم يصدر أي بيان باسم «الانقلابيين» حتى الآن، يعلنون فيه عن هويتهم وأهدافهم.
وقد أشارت الحكومة في بيانها إلى التحرك كان «مزاجياً» ويعكس حالة من الاستياء في أوساط العسكريين بسبب ظروفهم، واصفاً هذا الإحساس بأنه «قد يكون مشروعاً»، إلا أن الأمور سرعان ما أخذت أبعاداً أخرى مع منتصف النهار، وبدأ التحرك العسكري يتخذ شكلاً أكثر تنظيماً فاعتقل الرئيس والوزير الأول.
ولكن بقي السؤال الأهم الذي طرحه الماليون دون إجابة، وهو من يقود البلاد منذ الساعة الثامنة من صباح اليوم، تتحدث المصادر عن عدد من الضباط الشبان، يتقدمهم العقيد ساديو كمرا، الذي وصفته الصحافة المالية بأنه «رجل مالي الجديد».
يبلغ كمرا من العمر 41 عاماً، وهو من مواليد منطقة «كاتي» بالقرب من العاصمة باماكو، وهي نفس المنطقة التي تقع فيها الثكنة العسكرية التي بدأ منها التمرد العسكري، ومنها أيضاً بدأت انقلابات عسكرية سابقة، من أبرزها انقلاب 2012، الذي أحبط بضغط إقليمي ودولي، وأرغم قادته على الانسحاب من الساحة السياسية.
تلقى كمرا تكوينه في مدرسة عسكرية محلية في مالي، قبل أن يلتحق بوحدات من الجيش كانت تقاتل في الشمال إلى جانب العقيد الهجي أغ غامو، وهو واحد من أبرز قادة المؤسسة العسكرية في مالي المنحدرين من طوارق الشمال.
عاد كمرا من الشمال عام 2012 بعد هزيمة الجيش المالي أمام الحركات المسلحة المطالبة بانفصال إقليم «أزواد»، وكان حتى وقت قريب يتولى إدارة الأكاديمية العسكرية في معسكر «كاتي»، قبل أن يتوجه يناير الماضي إلى روسيا حيث يتلقى تكويناً عسكرياً، وعاد منها قبل أسبوعين في عطلة مدتها شهر واحد.
كتبت الصحافة المالية بنوع من الإطراء عن العقيد كمرا، ووصفته بالنزاهة والصرامة، وبأنه تحرك انحيازاً للشعب المستاء من أداء الرئيس كيتا وحكومته، ولكن لا تبدو الأمور بهذا القدر من الوردية، فالوضع في مالي أكثر تعقيداً من أن يمسك به عقيد في الأربعين من العمر، ويعيد تحرك كمرا إلى الأذهان انقلاب العقيد أمادو سانوغو قبل ثمانية سنوات.
المعارضة الصامتة
التزمت المعارضة المالية الصمت حيال هذا التمرد العسكري، وخاصة حراك الخامس من يونيو، الذي أدخل البلاد في أزمة سياسية خانقة منذ عدة أشهر، وسير مظاهرات شعبية حاشدة مطالبة باستقالة الرئيس كيتا وحكومته.
لم يصدر أي تعليق من الإمام محمود ديكو، على الأحداث التي شهدتها بلاده اليوم، وهو الرجل الذي كان حتى أمس يوصف بأنه الأقوى في مالي، ولكن هذا التمرد العسكري سيعيد ترتيب المواقع في الساحة السياسية، ويفرض معادلة جديدة قد لا يحتفظ فيها قادة المعارضة بمواقعهم، خاصة وأن الشارع أظهر اليوم انحيازاً كبيراً إلى جانب «الضباط الجدد»، وهو الذي كان يشكل مصدر قوة المعارضة.
حتى أن أعداداً من الشباب الداعم للحراك المعارض احتفلوا اليوم بالتمرد العسكري، وأظهرت الصور الواردة من باماكو، التحاماً بينهم والجيش لدى نزوله إلى الشوارع، وهو ما يثير مخاوف من المعارضة من فقدان مصدر قوتها.
ردود فعل إقليمية
المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي تلعب دور الوسيط في مالي، أعلنت في بيان أنها تتابع «بقلق كبير» الوضع «مع تمرد حصل في أجواء اجتماعية سياسية معقدة أصلاً»، وطلبت من العسكريين «العودة فورا إلى ثكناتهم».
وأضافت المجموعة: «في أي حال ندين بقوة المحاولة الجارية وسنتخذ كافة التدابير والخطوات اللازمة لإعادة تطبيق النظام الدستوري».
فيما بحث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأزمة مع نظرائه في النيجر محمد يوسفو وساحل العاج الحسن وتارا والسنغال ماكي سال، وأكد «دعمه التام لجهود الوساطة الجارية من دول غرب أفريقيا».
أما المغرب فكانت أول دولة عربية تعرب عن قلقها إزاء الأحداث الجارية في مالي، وقالت في بيان صادر عن وزارة الخارجية إن المغرب «يتابع بانشغال الأحداث الجارية، ومتمسك باستقرار هذا البلد، ويدعو مختلف الأطراف إلى حوار مسؤول في ظل احترام النظام الدستوري والحفاظ على المكتسبات الديمقراطية، من أجل تجنّب أي تراجع من شأنه أن يضر بالشّعب المالي».
من جهة أخرى، دان رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد «بشدة» توقيف الرئيس المالي، وكتب في تغريدة: «أدين بشدة اعتقال الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا ورئيس الوزراء بوبو سيسيه وأعضاء آخرين في حكومة مالي وأدعو إلى الإفراج عنهم فورا».
الرفض الدولي
على الصعيد الدولي، أعلن مجلس الأمن الدولي أنه سيعقد يوم غد الأربعاء اجتماعا طارئا لمناقشة الأزمة في مالي، بناء على طلب من فرنسا العضو الدائم في المجلس، والنيجر التي تترأس حاليا مجموعة دول (إيكواس).
من جانبه دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى «الإفراج الفوري وغير المشروط» عن الرئيس كيتا، وقال المتحدث باسم غوتيريس في بيان إن «الأمين العام يندد بشدة بهذه الأعمال ويدعو إلى العودة الفورية للنظام الدستوري ودولة القانون في مالي».
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد أعلنت بشكل صريح معارضتها لأي تغيير لنظام الحكم في مالي خارج الإطار الشرعي، وكتب المبعوث الأمريكي لمنطقة الساحل، جيه بيتر بام، على تويتر: «نتابع بقلق تطور الوضع اليوم في مالي. إن الولايات المتحدة تعارض أي تغيير للحكومة خارج إطار الدستور، سواء من قبل الذين هم في الشارع أو من جانب قوات الدفاع والأمن».
أما فرنسا التي تنشر أكثر من 5 آلف جندي في مالي ومنطقة الساحل، فقد أعلنت أن الرئيس ماكرون «يتابع عن كثب الوضع ويدين محاولة التمرد القائمة»، فيما قال وزير الخارجية جان إيف لودريان إن «فرنسا أبلغت بقلق بأمر التمرد الذي حصل اليوم في مالي وتدين بشدة هذا الحدث الخطير».
وأكد لودريان أن باريس «تشاطر المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا الموقف الذي عبرت عنه ودعت فيه إلى حماية النظام الدستوري»، مشدداً على «تمسك فرنسا الكامل بسيادة وديمقراطية مالي»، وفق تعبيره.
والاتحاد الأوروبي ممثلاً في وزير خارجيته جوزيب بوريل، فقد اعتبر أن التمرد العسكري «لا يمكن أن يكون ردا على الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة التي تضرب مالي منذ أشهر عدة».
تجارب مريرة
سبق أن عاشت مالي العديد من الانقلابات العسكرية، كان آخرها الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد أمادو سانوغو شهر أبريل من 2012، للإطاحة بحكم الرئيس السابق أمادو توماني توري، وأسفر هذا الانقلاب عن فقدان الجيش المالي للسيطرة على ثلثي مساحة البلاد لصالح جماعات إسلامية مسلحة.
ورغم أن انقلاب 2012 جاء على وقع أزمة أمنية وسياسية واجتماعية خانقة، إلا أنه فاقم الوضع في البلاد، وأدى إلى تدخل عسكري دولي بقيادة فرنسا لاستعادة السيطرة على شمال البلاد، وهو التدخل العسكري الذي ما يزال مستمراً حتى اليوم، رغم عدم نجاحه في استعادة الأمن والاستقرار في مالي.
وتنتشر في مالي قوات حفظ سلام أممية يبلغ قوامها 15 جندي، بالإضافة إلى قوات فرنسية تزيد على 5 آلاف جندي، هذا بالإضافة إلى وحدات من القوة العسكرية المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس التي يبلغ قوانها 5 آلاف جندي.