“الفارق الجوهري بين رجل السياسة و رجل الدولة، هو أن الأول يفكر دائما في مصيره في الانتخابات القادمة، بينما يفكر الثاني دائما في مصير الأجيال القادمة” جان فرانسوا ريفيل، فيلسوف و أكاديمي فرنسي (1924- 2006).
تسعى القوى الإقليمية والدولية المختلفة، منذ عدة سنوات، لوضع يدها على منطقة الساحل الإفريقي البالغة الأهمية الإستراتيجية، من أجل أن تكون لها الكلمة الفصل في تحديد مستقبل استقرار المنطقة و رفاهيتها الاقتصادية في السنوات العشرين القادمة، فضلا عن تأمين السيطرة على الطريق الغربي للنفط و على المواقع الجديدة لاحتياطيات الطاقة و المعادن النفيسة المكتشفة مؤخرا في المنطقة.
لكن، هل ستتحول المواجهة – التي تتسم حتى الآن بالكر و الفر – بين القوات الفرنسية و حلفائها و الجماعات الجهادية في شمال مالي إلى حرب شاملة مفتوحة، على ضوء التطورات العسكرية الجارية؟
إلى أين سيؤدي إشعال فتيل الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل؟ هل المراد هو تدويل الملف و تبرير تدخل عسكري دولي كما حدث في أفغانستان قبل أكثر من عشر سنوات؟ كيف تتحالف القوى الغربية مع الجماعات الجهادية في سوريا لإسقاط النظام و تخريب البلد، بينما نجدها تحارب نفس الجماعات في شمال مالي؟ و ما هي التداعيات و المخاطر المستقبلية لهذا الوضع على أمن واستقرار موريتانيا و منطقة الساحل عموما؟
منذ فجر الاستقلال، ظلت موريتانيا دائما تبحث عن ذاتها، متأرجحة بين عملية بناء وطني داخلي بالغة التعقيد و سعي دؤوب لإيجاد صيغ ملائمة لمقتضيات التعامل مع هاجس التحدي الدولي و الإقليمي الساعي دائما للتدخل في شؤون البلاد. و لعل موريتانيا باتت أكثر دول المنطقة تأثرا بتقلبات موازين العلاقات الدولية نظرا لطبيعة موقعها الجغرافي السياسي الإستراتيجي المتميز تبعا لتحولاتها الجيوسياسية التاريخية منذ موريتانيا الرومانية القديمة، مرورا بمرحلة الأمبراطورية الصنهاجية و دولة المرابطين مدة طويلة من الزمن، لتتحول في لحظة معينة إلى مجرد “فراغ” تسيره الإدارة الفرنسية للتحكم في مستعمراتها في الشمال والغرب الإفريقي، ثم لتكون بعد الإستقلال “همزة وصل” بين غرب و شمال مستعمرات إفريقيا الفرنسية، قبل أن تصبح البوابة الخطرة لمنطقة الساحل الأفريقي التي تمور حاليا بالعنف و الاضطرابات المختلفة.
في البدء، قررت السلطات الاستعمارية الفرنسية سنة 1899 إنشاء ما يسمى بموريتانيا الغربية لدواعي جيوستراتيجية قصد اختبار قدراتها في فن تسيير الفراغ على حد تعبير الضابط العسكري و الكاتب الفرنسي المخضرم ” أرنست بيشاري” (1883- 1914) من أجل مراقبة المنطقة الوسطى السائبة الواقعة ما بين مستعمراتها في كل من إفريقيا الشمالية العربية وإفريقيا الغربية الفرنسية أو السودان الفرنسي.
لقد ولدت موريتانيا من رحم تلك الصدمة الأولى و قد ظل تطورها “الدولتي” على الدوام بالغ التأثر بتذبذب ميزان العلاقات الدولية و بالثقل الساحق للمعطيات “الجيوسياسية” الخاصة بها و بالمنطقة عموما خلال الخمسين سنة الماضية من عمر الدولة الوطنية في موريتانيا.
من المهادنة إلى المواجهة
بعد تنامي الخطر المحدق للتنظيمات الجهادية مثل القاعدة و أخواتها في الساحل الإفريقي، و على مدى السنوات القليلة الماضية، حسمت الحكومة الموريتانية الحالية خياراتها في المواجهة العسكرية المحدودة من خلال أسلوب الضربات الإستباقية. لكن، ما هو تقييم تلك الخيارات من الناحية الإستراتيجية؟ و ما مدى حظوظها في النجاح و الفشل؟
إذا لم تكن العمليات التي قام بها الجيش الموريتاني مؤخرا ضد القاعدة داخل الأراضي المالية، تندرج في إطار سيناريو سياسي-عسكري دولي على طريقة عمليات الـ “كلاديو” أو ]Stay-Behind[ ، يتم تدبيره بعناية و سرية لخلط الأوراق و لتغيير الأولويات تنفيذا لأجندات داخلية و/أو خارجية لجعل موريتانيا تُقحم في تصفية حسابات ذات طابع إقليمي صرف لا علاقة لها بالحرب على الإرهاب، فإن مما لا شك فيه بأن الجماعة السلفية للدعوة و القتال (GSPC)- التي تحولت في سبتمبر/ أيلول 2006 إلى فرع القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (BAQMI) بعد إعلان ولائها لتنظيم القاعدة الأم – قد نجحت تماما في زرع خلايا نشطة من الجهاديين يتمتعون بقدرات تسليحية و لوجستية نوعية تمكنهم من فتح جبهة جديدة في موريتانيا رغم وجود أعضاء بارزين من التنظيم المسمى بـ “أنصار الله المرابطون” في المعتقل منذ سنوات، و هو التنظيم الذي يعتقد على نطاق واسع بأنه بات يمثل الفرع الموريتاني للقاعدة. وقد تعززت تلك القدرات التسليحية و اللوجستية و تضاعفت بعد انفجار الأوضاع الأمنية في ليبيا و تسرب السلاح و المسلحين منها نحو الشمال المالي و تركزهما خاصة في إقليم آزاواد في مالي.
فهل تشهد صحراء الساحل الإفريقي- تلك المنطقة المسحوقة إيكولوجيا واقتصاديا و المهجورة سكانيا – طورا جديدا من تحولاتها اللامتناهية عبر الزمن؟ فبعد أن عاشت في الماضي فتوحات امبراطورية المرابطين الأوائل وإشعاعهم الثقافي و الروحي الأطلسي والمتوسطي، تحولت منذ سنوات إلى مسرح كبير للإرهاب و لأعمال العنف المختلفة وكذا لأنشطة الرصد والعمليات الخاصة للاستخبارات الدولية في منطقتي المغرب العربي ودول إفريقيا جنوب الصحراء. و ها هي هذه المنطقة تصبح من جديد ميدانا للكر و الفر يأوي مخيمات تجميع و تدريب عناصر الجهاديين قبل إرسالهم إلى الجبهات في الشيشان و العراق و باكستان و الصومال و كذا لتنفيذ عمليات نوعية مختارة من قبل تنظيم القاعدة ضد أهداف تكتيكية أو استراتيجية في موريتانيا و دول المنطقة و ربما في بعض دول أوروبا كذلك، كما تشير توقعات التقارير الدولية.
فلا غرو إذن، أن تسعى القوى الإقليمية والدولية المختلفة لوضع يدها على منطقة الساحل الإفريقي الإستراتيجية، التي ستكون لها الكلمة الفصل في تحديد مستقبل استقرار المنطقة في السنوات العشرين القادمة و تأمين ضمان السيطرة على الطريق الغربي للنفط و على المواقع الجديدة لاحتياطيات الطاقة و المعادن النفيسة المكتشفة مؤخرا في المنطقة.
سيناريو التدويل في الساحل
تسعى قوى إقليمية و دولية عديدة منذ عدة سنوات لتدويل خطر القاعدة في منطقة الساحل ضمن إطار خطة عسكرية لعموم الساحل الإفريقي تسمى “مبادرة لمكافحة الإرهاب في الساحل”. و هي تشكل نواة للذراع المسلحة الأمريكية في دول جنوب الصحراء و الغرب الإفريقي. و تدخل في ذلك الإطار المناورات العسكرية المسماة بـ “فلينتوكس” أو “مدفع الحجر” التي شارك فيها سنة 2005 أكثر من 1000 عسكري من القوات الأمريكية الخاصة إلى جانب قوات افريقية متعددة الجنسيات.
إن استقراء موضوعيا للمعطيات المتاحة يؤكد حصول عدة تغيرات جيوسياسية هامة حدثت في المنطقة و لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند تقييم الموقف العام من الناحية الإستراتيجية. و تتعلق هذه المعطيات بتطور الفاعلين الإستراتيجيين المعنيين من جهة، و بتغير طبيعة التهديدات الأمنية نفسها و كذا بتطور مفهوم الأمن و الدفاع من جهة أخرى.
– أولا: عملت القاعدة منذ عدة سنوات و تحت تأثير الضغط عليها في المشرق الإسلامي (أفغانستان، الجزيرة العربية، العراق، اليمن) على نقل ثقلها التعبوي و الميداني من منطقة الشرق نحو الغرب الإسلامي للبحث عن ملاذات آمنة في منطقة الساحل الإفريقي. و بالفعل، كانت تلك المنطقة من العالم المسحوقة و المنسية قد تحولت في العشرين سنة الماضية إلى مسرح كبير للإرهاب و لأعمال العنف المختلفة وكذا لأنشطة إستخباراتية دولية للرصد والعمليات الخاصة في منطقتي المغرب العربي و دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. و يشكل الربع الخالي الذي هو بمثابة “وزيرستان” الساحل في أقصى الشمال والشمال الشرقي من موريتانيا وامتداداته وصولا إلى إقليم آزواد في شمال مالي- الذي يقع على حدود أربع دول هي موريتانيا والجزائر و مالي والنيجر – فضاء مثاليا لإخفاء الرهائن الغربيين الذين يتم اختطافهم لحين تحريرهم بعد الحصول على فديات مالية معتبرة، و كذا منطقة تخزين وعبور لآلاف الأطنان من المخدرات القادمة من إفريقيا و أمريكا اللاتينية في اتجاه دول الاتحاد الأوروبي عبر شواطئ موريتانيا والمغرب والجزائر و ليبيا. فهناك في “وزيراستان” الساحل، حيث تنمحي الحدود بين الدول عبر متاهات الرمال المتحركة، توجد جنة حقيقية لشبكات دولية متعددة تنشط في مجال تهريب المهاجرين السريين و أنواع الممنوعات كالمخدرات و السجائر و المحروقات و الأسلحة النارية و الذخيرة ، فضلاً عن كونها تشكل ملجأ للهاربين من العدالة والمتابعة الأمنية في دول المنطقة. لذا فقد وضعت القوى الإقليمية والدولية المختلفة عينها على هذه المنطقة الإستراتيجية التي ستكون لها الكلمة الأخيرة من الناحية الجيوسياسية في تحديد مستقبل الإستقرار في منطقة الساحل؛
– ثانيا: استطاعت شبكات التهريب الدولية المذكورة أن تتكيف مع الظروف القاسية للساحل الصحراوي و أصبحت تعتمد على بعضها البعض ضمن إستراتيجية شاملة و معقدة من أجل البقاء، تتجاوز الخصوصية التنظيمية لكل شبكة على حدة. وهكذا تتساند شبكات التهريب الدولية هذه فيما بينها و توظف قدرات و خبرات بعضها البعض من خلال تقديم وكلائها لخدمات مأجورة تحت الطلب ضمن ما يشبه دورة اقتصادية مغلقة خاصة بها، تتطور بسرعة نحو نوع من “رأسمالية الإرهاب” أو “اقتصاد الإرهاب الريعي” أو “السياحة الجهادية”. كما يجدر بالذكر أن جميع تلك الشبكات قد تم اختراقها من طرف أجهزة مخابرات دول المنطقة و من وكالات الاستخبارات الدولية. و نظرا لهذا التداخل و التشابك الشديد، يتعذر حاليا التمييز بين شبكة قد تتولى جمع المعلومات لصالح جهة ما و أخرى تضطلع بالجهاد أو تلك التي تختطف الرهائن أو تتاجر بالمخدرات أو بالأسلحة النارية، إلخ… و لعل صور تلفزيون القناة الإسبانية التي ظهر فيها المدعو عمر الصحراوي يقود سيارته بزهو مصطحبا رهينتين أسبانيتين بعد صفقة الإفراج عنهما، لتمثل خير دليل على قدرة تلك الشبكات على الانصهار في بوتقة واحدة تعتبر القاعدة المستفيد الأول منها ضمن صيغة “شركة القاعدة و أخواتها في الساحل”. كما يثبت ذلك الشريط أن ترحيل عمر الصحراوي من موريتانيا إلى مالي- التي أخلت سبيله على الفور- كان من بين الأسباب الرئيسية التي أدت بتنظيم القاعدة إلى إطلاق سراح الرهينتين الاسبانيين، إضافة إلى الفدية المالية، التي قدرتها بعض المصادر بمبلغ 10 مليون يورو، أكدت وسائل الإعلام الاسبانية أن مدريد دفعتها للتنظيم مقابل الإفراج عن الرهائن.
– ثالثا: لقد تطور مفهوم الأمن نفسه بشكل جذري من المنظور الاستراتيجي. فمع ظهور مفهوم “الأمن البشري” الذي ابتكرته الدبلوماسية الكندية أواخر تسعينيات القرن الماضي و تبنته هيئة الأمم المتحدة من خلال تقرير التنمية البشرية لسنة 2004، تغيرت النظرة االكلاسيكية لمفهوم الأمن والدفاع. تلك النظرة التي كانت تحصر وظيفة الأمن فقط في تأمين السلطة الحاكمة و الدفاع عن الحوزة الترابية للدولة على حساب أمن البشر أو الأفراد، أي الناس العاديين الذين هم المواطنون في ظل دولة القانون. فقد أصبح تركيز السياسات الأمنية الجديدة على أمن المواطن و تأمين احتياجاته أولا و قبل كل شيء، لتجعل من حفظ كرامته و احترام حقوقه و تحقيق طموحاته في التنمية المستدامة و رعاية مصالحه الحيوية المشروعة نقطة مرجعية لرسم السياسات العمومية في مجال الأمن. فهل تمتلك موريتانيا عقيدة وطنية للأمن القومي، أحرى أن تتوفر على إستراتيجية متكاملة “للأمن البشري” مدعمة بخطط عمل جاهزة للتنفيذ من أجل حماية الوطن بمفهومه المركب. لقد ظل مفهوم الأمن الوطني في موريتانيا غامضا، كما بقيت أغلب إيحاءاته سلبية بالنظر لطبيعة الممارسات الأمنية المتعسفة التي قادت البلاد إلى شتى صنوف التجاوزات و سوء استخدام النفوذ. و هكذا، ظلت وظيفة الأمن، التي يفترض أن تكون متكاملة أي القوة الناعمة و القوة الخشنة، مختزلة في نواتها العنفية كجهاز للقمع همه المطلق هو حماية الأحكام السياسية المتعاقبة و التنكيل بأفراد الشعب العاديين.
– رابعا: تطورت طبيعة التهديدات التي تمثلها القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من مرحلة المشكل الداخلي المقلق لكل دولة على حدة إلى قضية إقليمية جيوسياسية بالغة الحساسية. و هذا البعد الإقليمي للقضية تم حتى الآن توظيفه في لعبة التجاذبات الإقليمية للعلاقات و المصالح الدولية السياسية و الاقتصادية و الأمنية مثل إشكالية العلاقات الثنائية الحذرة و المثقلة بتداعيات الماضي الإستعمارى بين الجزائر و فرنسا، و كذالك في ترجيح ميزان القوة في النزاعات الإقليمية و المحلية مثل إشكالية الصحراء الغربية بين المغرب و الجزائر و إشكالية حركات التمرد الطارقية في شمال مالي، خاصة بعد انفصال إقليم آزاواد و الإعلان عن استقلاله من طرف واحد.
أما بعد أن أصبحت القيادة العسكرية الأمريكية الجديدة لإفريقيا (AFRICOM) مستقلة، فقد قامت بانجاز برنامج لمكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا و بوضع برنامج لأمن السواحل في خليج غينيا، كما رتبت أيضا لإقامة قواعد عسكرية في البلدان الإفريقية التي لديها إنتاج كبير من البترول أو تتوفر على احتياطات نفطية هامة. و هي تتفاوض حاليا لإنشاء مواقع عمليات متقدمة في كل من السنغال ومالي وموريتانيا و غانا و الغابون و ناميبيا على الحدود مع آنغولا من أجل تحسين مهابط الطائرات و تخزين الوقود و إيجاد تفاهمات مع الحكومات المحلية تسمح بالانتشار السريع للقوات العسكرية إذا اقتضى الأمر ذلك. و تهدف كل هذه الجهود إلى ضمان السيطرة الأمريكية و الأوروبية على الطريق الغربي للنفط و كذا على المواقع الجديدة والحيوية لاحتياطيات النفط و المعادن النفيسة المكتشفة مؤخرا في تلك المنطقة.
من القاعدة إلى لعنة الموارد الأحفورية
هل نزلت لعنة الموارد الأحفورية كالنفط و الغاز و اليورانيوم على منطقة الساحل في اللحظة غير المناسبة؟ و كيف السبيل إلى طرد عفاريت النفط والغاز التي بدأت تخرج من قمقمها في الصحراء لتؤجج صراع المصالح و المنافع المتفقة حينا و المتضاربة أحيانا أخرى بين القوى الدولية و الإقليمية؟ و هل ستذهب المنطقة ضحية للحرب على القاعدة لتدفع ثمن متغيرات التنافس و التحالف بين الأميركيين والفرنسيين في سبيل السيطرة السياسية والعسكرية و الاقتصادية على شبه المنطقة و على مواردها الطبيعية لضمان تدفق إمدادات الطاقة الضرورية نحو تلك الدول و المحافظة على مكانتها و نفوذها كقوى دولية اقتصادية و صناعية كبرى؟
هكذا ظل الأمر دائما في كل زمان و مكان: البنادق تسير على خطا التجارة. فبعد أن دخلت شركات النفط الغربية العملاقة مثل مجموعة توتال الفرنسية التي يبلغ رقم أعمالها السنوي أكثر من 12 مليار يورو و يتجاوز عدد عمالها 90.000، في سباق محموم من أجل الحصول على نفط منطقة الغرب الإفريقي، ها هي تطالب بتأمين الأمن والاستقرار كشرط ضروري للقيام بأنشطتها و تأمين استثماراتها. و وفقا لصحيفة “وول ستريت جورنال”، تعمل القيادة العسكرية الأمريكية لأوروبا حاليا مع غرفة التجارة الأميركية على توسيع نفوذ الشركات الأمريكية في إفريقيا، كجزء من “إستراتيجية وطنية مندمجة للاستجابة”. و في هذا السباق الاقتصادي المحموم للسيطرة على موارد النفط في إفريقيا، تدخل الدول الاستعمارية السابقة و غيرها كبريطانيا و فرنسا، فضلا عن الصين، كل حسب مصالحها القومية، في تنافس شديد مع الولايات المتحدة.
و تبعا لتقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية سنة 2006 تحت عنوان بالغ الدلالة “أكثر من الإنسانية: مقاربة إستراتيجية أميركية تجاه إفريقيا”، فإن إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من المرجح أن تصبح مصدرا لتزويد الولايات المتحدة بالطاقة بمستوى أهمية الشرق الأوسط مع نهاية العقد الحالي.
و ترجح بعض مراكز الدراسات الإستراتيجية الأمريكية بأن غرب إفريقيا يحتوي على زهاء 60 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد، وهو خام خفيف منخفض الكبريت يحظى بتقدير كبير لدى المصانع الأمريكية وكبريات شركات التزويد بالطاقة.
و يتوقع الخبراء أن برميلا واحدا من بين كل 5 براميل من النفط يدخل دائرة الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من العقد الحالي سيأتي من خليج غينيا، و أن حصة الواردات الأمريكية من النفط القادمة من تلك المنطقة سترتفع من 20% سنة 2010 إلى 25 % سنة 2015. خاصة إذا علمنا بأن صادرات نيجيريا وحدها تمثل حاليا 10% من إمدادات النفط التي تستوردها الولايات المتحدة، كما توفر آنغولا 4%، ومن المتوقع أن تتضاعف حصتها بحلول نهاية العقد الحالي. كما أن اكتشاف احتياطيات بترولية جديدة مهمة، خاصة في غانا و كذا التوسع في إنتاج النفط الذي تقوم به بلدان أخرى في المنطقة يزيد من فرص تصدير النفط إلى الغرب، و تشمل هذه البلدان كلا من: غينيا الاستوائية و وساو تومي و برينسيبي والغابون والكاميرون و موريتانيا و تشاد و السودان.
إن تصعيد الوجود العسكري الأميركي في أفريقيا كثيرا ما يبرر بضرورة مكافحة الإرهاب والتصدي لتنامي عدم الاستقرار في المنطقة النفطية من إفريقيا جنوب الصحراء. و قد نصت وثيقة “إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة” الصادرة سنة 2002 على أن مكافحة الإرهاب الدولي و الحاجة إلى ضمان أمن مصادر الطاقة للولايات المتحدة تملي عليها السعي لزيادة انخراطها في إفريقيا، كما دعت تلك الوثيقة إلى قيام تحالف طوعي من أجل إقامة ترتيبات أمنية خاصة في تلك القارة. كما أن فرنسا كانت قد أنشئت سنة 2003 آلية تسمى “فريق مكافحة الإرهاب” التابع لمجموعة G8 “Groupe d’action anti-terroriste” أثناء الرئاسة الفرنسية لتلك المجموعة. و يجري هذه الآلية سلسلة اجتماعات تشاورية مكثفة تشارك فيها مجموعات من الخبراء التابعين لفريق مكافحة الإرهاب من أجل تقييم الأوضاع الأمنية في المنطقة خاصة بعد العمليات التي نفذها الجيش الموريتاني ضد القاعدة داخل الأراضي المالية في السنوات الأخيرة و كذا بعد الانفصال الحاصل في الشمال المالي و سيطرة القاعدة و متمردي الطوارق على إقليم آزاواد.
و تدرس دول الاتحاد الأوروبي حاليا للمرة الأولى على أعلي مستوى الوسائل الكفيلة بتقديم مساعدة لدول الساحل التي تواجه إرهاب القاعدة في الساحل من أجل تأهيل قوات الأمن المحلية في النيجر وموريتانيا ومالي خاصة. و قد تعقد هذا الملف أكثر و تضاعفت حساسيته و خطورة تداعياته داخليا و خارجيا خاصة بعد تبنى مجلس الامن الدولي بالإجماع قرارا يسمح فيه بنشر قوة دولية في مالي دون تحديد جدول زمني لبدء عملية عسكرية في شمال مالي بهدف طرد المجموعات المتطرفة المسلحة التي تسيطر على هذه المنطقة منذ ستة أشهــر، و ما تلى ذلك من تدخل عسكري فرنسي – غربي- افريقي في شمال مالي و كل ما سيترتب على ذلك من تداعيات مختلفة على دول و شعوب المنطقة و على السلم و الاستقرار في العالم.
و كان الكونغرس الأميركي قد وافق من قبل على تقديم دعم مالي لـ “مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء” the Trans-Saharan Counterterrorism Initiative(TSCTI) بمبلغ 500 مليون دولار على مدى ست سنوات لدعم البلدان المعنية بمكافحة الإرهاب ضد التهديدات المزعومة لتنظيم القاعدة. و هذه البلدان هي الجزائر و تشاد و مالي و موريتانيا و النيجر و السنغال و نيجيريا والمغرب. و يهدف البرنامج المذكور إلى دعم قدرات هذه الدول في مجال مكافحة تهريب الأسلحة والاتجار بالمخدرات، فضلا عن مكافحة الإرهاب.
موريتانيا و مأزق الحلقة الأضعف
لا تخفى على أحد هي أن موريتانيا تعاني من مفارقات هائلة و تباينات حادة في طبيعة المعطيات الجغرافية و الديموغرافية مثل كبر حجم المساحة و ترامي المسافات في ما بينها، إذ تتجاوز مساحة البلاد أكثر من مليون كلم²، بينما تتجاوز الحدود البرية 5000 كلم، و يبلغ طول الساحل البحري على المحيط الأطلسي وحده 754 كلم، و طول الحدود على شاطئ نهر السينغال850 كلم. هذا إلى جانب ضعف شديد في الكثافة السكانية بمعدل 2,5 نسمة/كم² ويصل إلى صفر نسمة/كم² في كثير من مناطق البلاد، بالإضافة إلى انعدام و/أو ضعف الوسائل التكنولوجية واللوجستية مثل الأقمار الصناعية و أنظمة الرصد و التجسس و شبكات قواعد البيانات و أجهزة المراقبة و التنصت الإلكتروني، و قواعد التحكم و السيطرة العملاتية، و منظومات تحليل المعلومات، إلخ.
و تشير المصادر الإحصائية المتخصصة إلى وجود نقص حاد في البنى التحتية و المعدات و التجهيزات العسكرية، الأمنية و الدفاعية تعاني منه القوات المسلحة و قوى الأمن في موريتانيا. كما يضاف إلى ذلك محدودية الموارد المالية للدولة المخصصة للإنفاق العسكري من أجل رفع الجاهزية التعبوية و القتالية لوحدات الجيش و قوى الأمن، و التي بلغت سنة 2003 نسبة 4,9% من الناتج الداخلي الخام للدولة، لتنخفض سنة 2009 إلى نسبة 3,9% فقط.
و تقدر دورية “كلوبال سكيوريتي GlobalSecurity” المتخصصة في الشؤون الإستراتيجية الدولية مبلغ الإنفاق العسكري في موريتانيا بـ 19 مليون دولار سنة 2005، بينما بلغ حجم الإنفاق العسكري لنفس السنة في الجزائر 3 مليار دولار، و في المغرب 2,3 مليار دولار، و في السنغال 117 مليون دولار، و في مالي 50 مليون دولار، و في النيجر 45 مليون دولار، و في إسرائيل 9,4 مليار دولار، و في تركيا 12,2 مليار دولار، و في ليبيا 590 مليون دولار، و في تونس 440 مليون دولار. و يتوقع أن تصل مخصصات الدفاع المقترحة في الميزانية الموريتانية لسنة 2013 إلى مبلغ 150 مليون دولار أمريكي هذه السنة.
يظهر تشخيص الوضعية الإستراتيجية للبلاد أنها تعاني من اختلال بنيوي حقيقي يتمثل في عدم وجود هيكلة تنظيمية ناضجة وجادة للأمن والدفاع القومي من شأنها أن تكون قادرة حقا على التعامل مع التحديات التي تواجهها موريتانيا اليوم، أحرى أن تكون قادرة على تحقيق نصر يذكر في مواجهة عسكرية محتملة مع تنظيم القاعدة الذي أعيى القوى الدولية العظمى و كبدها خسائر بآلاف المليارات من الدولار في أفغانستان و العراق و الصومال وغيرها. و يكفي أن نشير مثلا إلى أن التكاليف المالية لمشاركة فرنسا وحدها، و قد كانت دولة غير رئيسة في ائتلاف الحرب على الإرهاب في أفغانستان، كانت تقدر بـ 1,3 مليون يورو يوميا! قبل أن تسحب قواتها من ذلك البلد لتزج بها في الساحل الإفريقي.
ثم أن القوى الغربية المتورطة في الحرب على أفغانستان منذ أكثر من عشر سنوات، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، تبحث الآن لنفسها عن مخرج مشرف و هي تتفاوض حاليا بصفة سرية مع طالبان للوصول إلى حل سياسي!
لا شك أن موريتانيا ليست كالبلدان المجاورة الأخرى، و تختلف وضعيتها عن شقيقتيها الجارتين المغرب و الجزائر، و هذا واضح جدا مما تقدم ذكره. فمثل تلك البلدان لها تقاليد دولتية إدارية، أمنية و عسكرية عريقة جدا، و لها خبرت في حقل العلاقات الدولية تتجاوز قرونا من الزمن، فضلا عن مواردها البشرية و العلمية و المالية المعتبرة. إنها فعلا دول تمتلك عدة خيارات متاحة في مجال التعاطي مع موضوع الإرهاب و الجريمة المنظمة من بينها الخيار الأمني لمواجهة القاعدة أو غيرها. أما بالنسبة لموريتانيا، فسواء مع أو بدون تهديدات القاعدة، لا يمتلك هذا البلد في الوقت الراهن خيارا أمنيا ناضجا ضد أي تهديد أمني واقع أو محتمل أيا كان مصدره.
ببساطة، لم يسبق أن وضعت موريتانيا لنفسها إستراتيجية أمنية شاملة من هذا القبيل. و قد مضى أكثر من نصف قرن من الزمان على استقلال البلاد و لما توجد بعد إرادة سياسية حقيقية لتتحمل بجدية هذه المسؤولية باعتبارها حاجة ملحة لوجود الدولة الموريتانية واستقرارها و استمرارها في المستقبل ضمن محيط إقليمي و دولي بالغ الاضطراب و التعقيد.
و هكذا، ضاعت على موريتانيا فرصة انتهاج سياسات عمومية جدية تخطط لتعبئة وتنظيم ونشر الوسائل العسكرية، البشرية منها و المادية كالتجهيزات و الآليات والمعدات التسليحية والتقنية و اللوجستية اللازمة لقطاع الأمن و الدفاع بشكل يتناسب مع الاحتياجات الإستراتيجية الحقيقة للدولة الموريتانية ضمن إكراهات موقعها و حدودها المعروفة. كما أن مسؤولية تقييم و أخذ الحقائق الاجتماعية والاقتصادية و الإكراهات البشرية والطبيعية والجغرافية والجيوسياسية بعين الاعتبار في عملية بناء منطقي لمنظومة أمنية و دفاعية قادرة على الاضطلاع بمهام “الأمن البشري” للجمهورية والدفاع عنها، قد ظلت حتى الآن انشغالا غائبا في مشروع الدولة الموريتانية المعاصرة.
و يرجع ذلك لأسباب كثيرة تتعلق بضعف الموارد المالية للدولة و تعدد أولوياتها في مجال التنمية و كذا نقص الوعي لدى أغلبية النخب المسؤولة عن صناعة القرار بقيمة و أهمية التراكم المعرفي الإستراتيجي، و عدم الاهتمام بتطوير البحث العلمي وانعدام مراكز البحوث المتخصصة و نقص التدريب المهني و ضعف مستوى القدرات و غياب التأهيل المهني المستمر للكادر البشري. هذا طبعا، بالإضافة إلى عامل الخوف المزمن لدى أنظمة الحكم المتعاقبة من تنامي القوة المحتملة للجيش و قوى الأمن في بلد له تقاليده المعروفة في مجال الانقلابات العسكرية.
باختصار، إن القدرات العسكرية على الاستجابة الفورية لتهديدات أمنية جدية و خطيرة ـ مهما كان مصدرهاـ تستهدف وجود الدولة الوطنية الموريتانية في الصميم كالجريمة المنظمة و الإرهاب و تهريب المخدرات و الاتجار غير المشروع بالممنوعات والهجرة السرية، الخ.…، لم تحظ حتى بالاهتمام السياسي النوعي المطلوب. و لم يسبق أن سجل هذا الشكل من المشاريع ضمن أولويات السياسات العمومية بالنسبة للأحكام المتعاقبة على هذه البلاد طيلة الخمسين سنة الماضية.
و في مثل هذه السياقات الحذرة، يحتم الموقف الجيوستراتيجي الحساس على الحكومات الموريتانية أن تجتهد بصدق في حسن قراءة خارطة المعطيات و المؤشرات المتعلقة بقضايا الأمن الإستراتيجي و التهديدات الإرهابية للقاعدة و غيرها، قصد بناء السيناريوهات الممكنة لتسيير المواجهة على أسس علمية، و من ثم يتوجب عليها أن تعيد تقييم خياراتها على أساس المفاضلة الموضوعية في ما بين تلك السناريوهات، أما في ظل التطورات الجيوستراتيجية الجارية، فيتحتم على النخب السياسية و على صناع القرار في موريتانيا أن يواجهوا هذا الواقع الإستراتيجي بشجاعة أدبية و صدق مع النفس و مع الرأي العام الوطني، الذي ينتظر منهم ذلك، بما يخدم المصلحة الوطنية بكل مسؤولية و تجرد.
فمصير الدولة التي قد لا تحسن المناورة الإستراتيجية هو أن يحكم عليها بالخضوع لمناورات دول أخرى عرفت كيف تجيد اتخاذ قراراتها في الوقت المناسب.
لا مصلحة لموريتانيا في التورط مع أي ائتلاف أمني ـ عسكري تحت ذريعة الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل. و لا يمكن لمثل تلك القرارات المغامرة أن تكون من الحكمة و لا من الرشاد في شيء. بل، لقد ثبت فشلها في أنحاء عديدة من العالم و جلبت الخراب و الدمار للبلاد و العباد في الصومال، و أفغانستان، و العراق، إلخ. و هي فضلا عن كونها ستبقى مرفوضة من طرف الرأي العام الوطني والطبقة السياسية الشريفة، فهي لا يمكن أن تمثل الجبهة الحقيقة التي يتوجب على موريتانيا أن تحشد لها العدة و تعلن لها النفير. و سيظل من الأولى أن تكون حرب موريتانيا الحقيقية و جهادها و تحالفها هو أساسا ضد التخلف و الفقر و الجهل و المرض و البطالة و التهميش و الظلم والغش و التلاعب بالمصالح العليا للشعب و الأمة. إن موريتانيا بحاجة ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى تغيير نظرتها إلى الأمور كدولة، ليس بطريقة تلمس الخطأ و الصواب، بل بشكل منهجي مدروس يهدف إلى إعادة صياغة و ترميم عميق لسياساتها الأمنية والدفاعية فضلا عن تدبير دبلوماسيتها على الصعيد الدولي بطريقة علمية، مهنية و فعالة كما يفعل الآخرون.
إن قضايا الأمن و الدفاع و السياسة الخارجية و الدبلوماسية في الحقيقة هي مجالات بالغة الحساسية و لا يمكن أن تنسجم مع غلبة الارتجال و اللامبالاة و غياب المهنية، و انتشار التعامل الزبوني. لم يعد في الإمكان تأخير إصلاح حقيقي يطال جوهر و شكل السياسات العمومية المذكورة، فقد حان الوقت لأن تتغير النظرة الضيقة للأمن وللدفاع في موريتانيا، المحصورة تقليديا في أمن السلطة الحاكمة و أمن الإقليم الترابي على حساب الاهتمام بأمن البشر أو المواطنين العادين في ظل دولة القانون. إن مثل هذا التغيير في الأفق، يقتضى من الآن فصاعدا أن تركز السياسات العمومية أولوياتها على الأمن البشري أي أمن المواطن أولا و قبل كل شيء. إن مستقبل البلاد مرهون اليوم بإدخال إصلاحات عميقة على كيان الدولة الموريتانية من أجل إعادة هندسة وظائفها الرئيسية من النواحي الإيديولوجية و الإستراتيجية و التشريعية، و المؤسسية.
أما حرب نابليون في مالي.. فهي بوابة أفغانستان الجديدة التي اشرعت أخيرا في المنطقة لإعادة رسم خارطتها من جديد.. خارطة الساحل الجديد.. قادمة.. و هي ستكون بطعم شوربة الضفادع على الطريقة الفرنسية.
كلنا نشعر الآن.. و كأن السيدين اللدودين سايكس و بيكو يتململان في قبريهما.. و يأخذان من جديد أقلام الرصاص و قصاصات ورق أبيض .. و خرائط رمادية لمنطقة الساحل .. إنهما يستعدان الآن لرسم خطوط جديدة .. و حدود جديدة.. و كيانات جديدة.. تقسيم المقسم.. و تجزئة المجزء..
و لا أحد بمنأى عن أقلام رصاص ساسكس و بيكو الجديد.
محمد السالك ولد إبراهيم
خبير في العلاقات الدولية،
كبير الباحثين/ المركز الموريتاني لأبحاث التنمية و المستقبل