يثار الجدل حاليا بقوة حول محكمة العدل السامية في موريتانيا سواء من حيث الأساس الدستوري والقانوني الناظم لآلية تشكيلها أو من حيث حدود اختصاصاتها، فضلا عن تعثر “إحيائها” لمباشرة مهامها الدستورية.
في البدء: من حيث الأساس الدستوري لمحكمة العدل السامية
لقد درجت العديد من الدساتير العالمية في الأنظمة السياسية ذات النظام الجمهوري على التبويب على مؤسسة دستورية خاصة يعهد إليها بمحاكمة رئيس الجمهورية والوزراء نظرا لطبيعة المسؤوليات والمهام التي يمارسونها وتجسيدا للقاعدة الصلبة: حيثما وجدت السلطة وجدت المسؤولية”؛ إذ بانتفاء هذه العلاقة الترابطية بين السلطة والمسؤولية تصبح السلطة تسير في اتجاه الاستبداد المحقق.
بخصوص الدستور الموريتاني الصادر 1991 ،المعدل والنافذ حاليا، فلم يشذ عما درج عليه نظراؤه في الأنظمة الديمقراطية. فقد خصص لهذه المؤسسة الباب الثامن منه معنونا بـ” حول محكمة العدل السامية”. وتضمن هذا الباب مادتين ( 92 و93) تتعلق مقتضياتهما بآلية تشكيل هذه المحكمة وتحديد الأشخاص الذين يعهد إليها باختصاص محاكمتهم.
-اقتصرت المادة 92 من الدستور، المشار إليها آنفا، على التركيبة الشخصية لأعضاء هذه المحكمة والظرف الزمني لبداية وانتهاء مأموريتهم، حيث نصت على أن محكمة العدل السامية تتشكل من أعضاء منتخبين من بين أعضاء الجمعية الوطنية بعد كل تجديد عام للبرلمان. ويتم انتخاب الرئيس من بين أعضائها. وهنا نلاحظ أن هذا النص الدستوري ترك تحديد عدد هؤلاء الأعضاء للقانون النظامي الذي أحالت عليه الفقرة الأخيرة من هذه المادة (م92) لتنظيم قواعد تشكيل المحكمة والإجراءات التي تتبع أمامها، والذي نص في المادتين الثانية والثالثة منه على أن المحكمة تتكون من ثمانية (8) قضاة وأربعة (4) قضاة خلفاء ينتخبهم البرلمان من بين أعضائه بواسطة الاقتراع السري.
مع الإشارة إلى أن هذا القانون النظامي ( 021-2008) هو قانون قديم تم إقراره في ظل اعتماد الثنائية البرلمانية ( الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) ولم يعد يتلاءم وواقع البرلمان الحالي الذي أصبح يتشكل من غرفة واحدة هي ” الجمعية الوطنية” بموجب المراجعة الدستورية 2017 التي ترتب عنها إلغاء مجلس الشيوخ.
-أما المادة 93 من الدستور فقد حددت أصحاب الوظائف السامية الذين تتم محاكمتهم من لدن محكمة العدل السامية، ويتعلق الأمر حصرا برئيس الجمهورية والوزير الأول والوزراء. غير أن المشرع الدستوري لم يساوي بين الأفعال الصادرة من طرفي الجهاز التنفيذي من حيث اعتبارها محلا للمساءلة:
فبالنسبة لرئيس الجمهورية فقد أكدت الفقرة الأولى من المادة 93 ( المشار إليها آنفا) على أنه لايكون مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسته لسلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى حصرا. ولايمكن اتهامه إلا من طرف الجمعية الوطنية وبتصويت الأغلبية المطلقة من أعضائها على هذا الاتهام، وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية. أما الوزير الأول والوزراء فهم مسؤولون جنائيا عن مختلف التصرفات التي يرتكبونها أثناء تأديتهم لوظائفهم والتي تكيف على أنها جرائم أو جنح وقت ارتكابها. وتكون محكمة العدل السامية مقيدة بتحديد العقوبات المنصوص عليها في القوانين الجنائية النافذة وقت وقوع تلك الأفعال. هذا فضلا عن مسؤوليتهم ( أي الوزير الأول وأعضاء الحكومة) السياسية أمام البرلمان وفقا لمقتضيات المواد 43 و 74 و75 من الدستور.
وبالرجوع إلى محاولة استكناه المقصود بالخيانة العظمى التي اعتبرها المشرع الدستوري الموريتاني التهمة الوحيدة التي قد يترتب عنها محاكمة رئيس الجمهورية، فإن ذلك يتطلب الإشارة إلى أن هذه العبارة ( الخيانة العظمى) تعتبر إحدى العبارات الفضفاضة التي تضمنتها العديد من الدساتير العالمية مع عزوف المشرع عن تحديد ماهيتها والمقصود بها. لذلك حاول الفقه الدستوري البحث عن توصيف دقيق لها يمكّن من تحديد طبيعتها من حيث مدى اعتبارها تهمة سياسية أم تهمة جنائية؟
وعلى ضوء هذا الجدل برزت عدة اتجاهات، أحدها يرى بأن الخيانة العظمى ذات طابع جنائي محض، في حين يرى اتجاه آخر أنها ذات وصف سياسي، بينما ذهب فقهاء آخرون إلى القول بأنها ذات وصف مزدوج: أي أنها تهمة سياسية وجنائية. ويستدل أصحاب هذا الرأي الأخير بأن المشرع الدستوري بالرغم من أنه جعل سلطة الاتهام من اختصاص جهة سياسية ( البرلمان) إلا أن المحكمة المختصة بالبت في هذا الاتهام تزاوج بين طابعها السياسي من حيث تشكيلها من أعضاء الجمعية الوطنية وبين طبيعة الإجراءات التي تتبع أمامها ذات الصبغة القضائية.
لكن السؤال الذي يطرحه الجدل القائم حاليا هو هل ينعقد لمحكمة العدل السامية اختصاص محاكمة رؤساء الجمهورية السابقين؟
من خلال القراءة المتأنية لمقتضيات المادة 93 (ف1) من الدستور أرى بأن محكمة العدل السامية ينعقد لها اختصاص محاكمة رئيس الجمهورية الممارس لوظائفه ومهامه الدستورية خلال مأموريته الرئاسية، وحصرا في حالة اتهامه بالخيانة العظمى من طرف الجمعية الوطنية كما أشرنا سابقا. ويبدو أن هذا التفسير أو هذا التوجه سار في اتجاه محاولة تقنينه وإزالة أي لبس بخصوصه واضعوا مقترح القانون النظامي المقدم من طرف بعض أعضاء البرلمان ليلغي ويحل محل القانون النظامي رقم 021-2008 المتعلق بمحكمة العدل السامية ( وإن كان مازال قيد الدراسة وتعوز بعض مواده الصياغة الفنية). حيث عمد واضعوا هذا المقترح إلى تعديل الصيغة الحالية للمادة 19 من هذا القانون النظامي لتنص بشكل صريح على أنه “يتضمن اتهام رئيس الجمهورية الممارس من قبل غرفة النواب أمام محكمة العدل السامية ملخصا بالوقائع المنسوبة إليه”. في حين نلاحظ أن كلمة “الممارس” لايتضمنها النص الحالي للمادة 19 من القانون النظامي رقم 021-2008.
وخلاصة القول في هذا المضمار أنه هناك ثلاث عناصر مترابطة لكي ينعقد الاختصاص لمحكمة العدل السامية:
-أن يكون الاتهام موجها لرئيس الجمهورية والووزراء الممارسين لوظائفهم من طرف الجمعية الوطنية؛
-أن يكون هذا الاتهام يتعلق بالخيانة العظمى حصرا بالنسبة لرئيس الجمهورية؛
-أن تصوت الأغلبية المطلقة من أعضاء الجمعية الوطنية على هذا الاتهام، وعلى إثر هذا التصويت تبدأ إجراءات متابعة المتهمين ومحاكمتهم من قبل محكمة العدل السامية.
انطلاقا من ذلك فإن عدم توافر هذه العناصر كاملة يترتب عنه ( من وجهة نظري) عدم انعقاد لاختصاص لمحكمة العدل السامية، ما يعني أن الاختصاص في النظر في تلك القضايا ينعقد للقضاء العادي.
وعليه فإذا كانت التهم تتعلق بارتكاب جرائم فساد مالي فإنه بالرجوع إلى القانون رقم 014-2016 المتعلق بمكافحة الفساد نجده خصص المادة الثانية منه (ف2) لتحديد المقصود بالموظف العمومي بنصها على أنه :
يقصد بموظف عمومي في هذا القانون كل شخص مدني أو عسكري يشغل منصبا تنفيذيا أو تشريعيا أو إداريا أو قضائيا سواء كان معينا أو منتخبا دائما أو مؤقتا بصرف النظر عن رتبته أو أقدميته. وأكدت المادة 30 من نفس القانون على أنه في كل الحالات التي يحكم فيها بإدانة الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين بإحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، فإن المحاكم المختصة تقضي بمصادرة كافة أملاك المحكوم عليه والمتحصل عليها من ارتكاب هذه الجرائم مهما كانت طبيعتها لصالح الخزينة العامة.
*د/ محمد عبد الجليل ولد الشيخ القاضي
-رئيس مركز نواكشوط للدراسات القانونية والاجتماعية،
باحث مختص في القانون الدستوري والعلوم السياسية-