بقلم: د. محمد الراظي بن صدفن
إن إدخال الثقافة في سلم أولويات السياسات التنموية للدول يشكل شرطا أساسيًا للانفتاح على العالم، وذلك بالنظر إلى عوامل عديدة أهمها الالتزام بمبادئ التنوع الثقافي، وما يقتضيه ذلك من ضرورة لدمج قيم التعددية الثقافية في مجمل السياسات والآليات والممارسات العامة، لا سيما عبر الشراكات العامة والخاصة.
ومن هذا المنطلق فلا بد أن يكون التركيز على دمج الثقافة في مجمل سياسات التنمية سواء ارتبطت بالتعليم أو العلم أو الاتصالات أو الصحة أو البيئة أو السياحة يهدف إلى تحقيق منافع عامة تشمل تطوير الصناعات الإبداعية وتحقيق التماسك الاجتماعي والمساهمة في التخفيف من حدة الفقر.
علاوة على ذلك، فإن حماية الثقافة و تطويرها تشكلان غاية ووسيلة للمساهمة المباشرة في تحقيق جزء كبير من أهداف التنمية المستدامة:
-مدن آمنة ودائمة،
– شغل لائق،
– نمو اقتصادي ،
– تقليص في الفوارق،
– حماية المحيط،
– مساواة بين الجنسين،
– مجتمعات سلمية وشمولية.
وإذا ما حصرنا محورية هذه الأهداف حول الأسس الثلاثة للتنمية المستدامة؛ الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، يتبين لنا الدور المشترك الذي يؤمنه في كل منها البعدان الثقافي والإبداعى. وفي المقابل تساهم أيضا الأبعاد الاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة في المحافظة على التراث الثقافي وفي تغذية القدرات الابتكارية. وهنا يشكل كل من التراث الثقافي المادي وغير المادي والطاقة الابداعية موارد يجب حمايتها وإدارتها بكل عناية.
من جهة أخرى فإن ربط الثقافة بالديمقراطية والسلام والتنمية الشاملة يظل هو المخرج الأمثل لأية نزاعات محلية حول الهويات الثقافية للأفراد والفئات والجماعات، وهو الضمان الأكيد لنجاح الخطط التنموية التي تريد الحكومة الموريتانية تنفيذها مستقبلا في هذا المجال.
وللتذكير ، لابد من الإشارة إلى أن الدولة الموريتانية قد سعت منذ استقلال البلاد وإلى اليوم أن تلعب الدور المنوط بها في المحافظة على التراث وصيانته وتثمينه، وبذلت جهودًا كبيرة لتحقيق ذلك شملت مجالات متعددة أهمها:
– الإطار التشريعي والمؤسسي، وذلك عبر إصدار جملة من التشريعات شملت إنشاء وتنظيم الهيئات المعنية بتسيير الثقافة والتراث وتحديد الصلاحيات المنوطة بعملها.
– تصنيف المدن القديمة الأربعة تراثا للإنسانية بالتعاون مع المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال.
– إنشاء جائزة شنقيط للآداب والفنون والعلوم.
– المصادقة على القانون الإطار لحماية التراث والقانون الخاص بالفنون الحية والملكية الفكرية والانخراط في كل المعاهدات الدولية المتعلقة بالتراث الثقافي المادي واللامادي.
– ترقية البحث الأثرى وجمع المخطوطات وصيانتها.
– تنفيذ برامج الصيانة والحفظ بالنسبة للمدن التاريخية والعمل على خلق ديناميكية محلية لتنميتها.
– جمع واقتناء وصيانة الممتلكات المتحفية.
– إجراء فحص تنظيمي للمؤسسات الثقافية بدعم من الشركاء في التنمية تمخضت عنه اعادة هيكلة للقطاع ووضع الهيئات المعنية بالتراث والثقافة تحت وصاية واحدة.
– المصادقة على استيراتيجية وطنية لصيانة التراث الوطني وتثمينه.
– تخصيص نسبة واحد في المائة من العائدات الجمركية الوطنية لتمويل الأنشطة ذات الصلة بترقية قطاعي الثقافة والشباب والرياضة.
– تفعيل الشراكة مع المنظمات الدولية العاملة في الحقل الثقافي والتي تمخضت مؤخرا عن حصول البلاد على مقعد إدارة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وفوزها بمركز المدير الجهوي للافراكفونية في لومي وحصولها علي العديد من تمويلات المشاريع الثقافية الصغيرة.
هذا إضافة إلى الجهود المبذولة حاليا من السلطات الوصية على القطاع للدفع بترقية قطاع الصناعة التقليدية وتثمين دور المسرح والسينما والفنون التشكيلية من اجل ادماجها في النسيج الإقتصادي للبلد.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود فإنه لا زالت هناك معوقات تقف أمام نجاح أية استيراتيجية تنموية ثقافية في موريتانيا وهذه المعوقات نجملها فيما يلي:
– ضعف سيطرة الهيئات الحكومية على مكامن التراث المكتوب وغياب إطار تشاركي بين الدولة وملاك المخطوطات يسمح بوضع اليد على الأرصدة المتاحة مقابل التكفل بحقوق الخواص.
– عدم وجود خريطة شاملة للتراث الثقافي الوطني.
– ضعف المبادرات العمومية والخصوصية في مجال التنمية الثقافية.
– عدم جدية المشاريع السابقة وعدم مطابقة جدوائيتها مع أولويات التنمية الثقافية وغياب إشراك المستفيدين في إعدادها وتنفيذها.
– غياب استيراتيجية إعلامية تنموية ثقافية واضحة المعالم.
– غياب دمج التراث الثقافي في المناهج العلمية والتعليمية والبحثية.
– عدم مراعاة حماية التراث الثقافي في سياسات الإصلاح الترابي.
– غياب جهاز مالي لتمويل الأنشطة التراثية والثقافية بصفة مستديمة.
ومن أجل تجاوز هذه الاختلالات الهيكلية المعيقة فإننا نوصي باتخاذ الإجراءات التالية:
– القيام بإعداد خريطة عامة للتراث الثقافي مشفوعة بدراسات مرجعية عن المعالم الأثرية في البلاد وتحديد مواقعها وإعداد خطة لصيانتها وإعادة إعمارها.
– استئناف برامج جديدة للحفريات على امتداد التراب الوطني ونشر نتائجها العلمية.
– تشجيع السياحة الثقافية عبر تفعيل الدور الاقتصادي لمهرجان المدن القديمة وتبني سياسة تشاركية واضحة بين الدولة وشركائها في التنمية والقطاع الخاص تستهدف إنجاز مشاريع تنموية ثقافية متناغمة مع المحيط الطبيعي والثقافي لهذه المدن.
– اعتماد سياسة إعلامية ثقافية ناجعة تستهدف تعبئته الرأي العام حول أهمية المحافظة على تراث البلد وصيانته وتثمينه والتأكيد على ضرورة صون هويته الحضارية الجامعة.
– ترقية الصناعة التقليدية باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز التنمية الثقافية، وتفعيل الشراكة مع الغرفة الوطنية للصناعة التقليدية ومختلف التكتلات ورابطات الصناع التقليديين المنتجين وإقامة معارض دائمة لتسويق منتجاتها.
– القيام بجرد شامل للمخطوطات والمكتبات الأهلية وفتح الشراكة مع ملاك المخطوطات الخصوصيين وأصحاب المكتبات الأهلية.
– تأهيل المتاحف ومساعدتها على الحصول على المقتنيات الأثرية الضرورية.
– تشجيع الإنتاج الثقافي والإبداعي وإقامة الأندية الخاصة بالمسرح والسينما والفن التشكيلي في جميع عواصم ولايات الوطن.
– تأسيس فروع للمكتبة الوطنية في جميع ولايات الوطن وجعل الكتاب في متناول الجميع.
– تشجيع وتثمين الفولكلور الشعبي بكل أنواعه وإبراز الخصوصيات الثقافية لجميع مكونات شعبنا مع إعطاء مزيد من العناية للموسيقى التقليدية والعمل على كتابتها.
– دعم قدرات القطاع الثقافي عبر التكوين المستمر وذلك من خلال اعتماد تكوين جامعي يفضي إلى الحصول على شهادة الليصانص في مهن الثقافة والتراث في إطار الشراكة مع جامعة انواكشوط العصرية.
– إنشاء هيئة للنشر الثقافي والعلمي تتولى مهمات الإشراف على طباعة الكتب والدوريات والمجلات والبحوث المتخصصة في مجال الدراسات التراثية والثقافية، علاوة على جمع التراث الشعبي و نشره.
– تفعيل دور المجلس الوطني للتراث الثقافي.
– الحفاظ على القيم الروحية والأخلاقية لتحصين الشباب ضد كل الأنماط الثقافية الدخيلة.
وبما أن أية استيراتيجية ناجحة وفعالة تتطلب في المقام الأول تعبئة الموارد الضرورية لتحقيق أهدافها، فإن إنشاء الصندوق الوطني للتنمية الثقافية يصبح أمرا لا مناص منه. وهنا يتعين على الدولة وشركائها في التنمية وكل الدول العربية والإسلامية الشقيقة التي نتقاسم معها موروثنا الحضاري وجميع الفاعلين الاقتصاديين الوطنيين الإسهام بشكل فاعل في تمويل هذا الصندوق.
وذلك من أجل كسب رهان التنمية وتجاوز كل العراقيل التي تحول دون تمكين موريتانيا من استرجاع تحكمها في سياستها الثقافية.
والخلاصة أن التنمية الثقافية في موريتانيا لا يمكن أن تتم دون تحقيق سياسة ثقافية تطال كل الحياة الإجتماعية والسياسية والإعلامية والبيئية. كما أن تعزيز دور الثقافة في التنمية الشاملة للبلد يحقق الهدف المنشود المتمثل في الإستقلالية والتماسك الإجتماعي وصيانة الوحدة بين جميع مكونات شعبنا.
ورغم قناعتنا بأهمية الوحدة في تجذير الوعي بالديموقراطية وإقامة دولة العدل والإنصاف وفي إرساء قواعد الحكم الرشيد، فإننا مع ذلك نؤمن بأنها لا يمكن أن تفرض بقوة القانون أو بإصدار التشريعات بل يجب أن تكون نتاجا لتوافق داخلي ولقناعة جماعية ورغبة صادقة في العيش المشترك. وذلك لا يمكن تحقيقه إلا بالرجوع إلى العمل بقيم التسامح والتآلف والتعاضد وقبول الآخر التي تحث عليها تعاليم ديننا الإسلامي.
وتمثل إعادة الاعتبار لهذه المنظومة القيمة الحضارية والأخلاقية أولوية كبيرة في البرنامج الانتخابي لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني وفي تعهداته المعلنة، لا لكونها ضرورية فى أي جهد تنموي يراد القيام به للحد من الغبن والتهميش والإقصاء فحسب، بل لكونها أداة حسم وقوة ومنعة بالنسبة لشعبنا وهي في نفس الوقت محددات أساسية للبقاء.
وقد قيل قديما: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا