بدأت العديد من الأحزاب السياسية المعارضة، منذ عدة أشهر، التشاور لتشكيل «تنسيقية سياسية» جديدة، هدفها توحيد جهود المعارضة وإعادتها إلى الساحة بعد أشهر من الخمول، ولكن بحث أحزاب المعارضة عن «الوحدة» زاد «الانقسام»، وبدأت ترتسم خريطة جديدة داخل المعسكر المعارض.
مصادر «صحراء ميديا» تؤكد أن ثلاث «تنسيقيات» معارضة ستظهر في المشهد خلال الفترة المقبلة، وربما أكثر من ذلك، تماشياً مع تطور الأحداث واستمرار التشاور داخل معسكر المعارضة الذي يبدو أنه يدفع ثمن «العشرية الأخيرة»، وما حدث فيها من مواقف بدأت حساباتها تصفى، كما أن ارتدادات الانتخابات الرئاسية الأخيرة ما تزال مستمرة، فهل نحن أمام جسد منهك للمعارضة تقوده عدة رؤوس ؟!
شبح الماضي !
التحركات الأخيرة نحو تشكيل إطار «موحد» للمعارضة، بدأها حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل)، وهو الحزب المعارض الأكثر تمثيلاً في البرلمان والذي يتولى قيادة «مؤسسة المعارضة الديمقراطية»، التي ترمز إلى زعامة «دستورية»؛ من هذا المنطلق بدأ (تواصل) مطلع شهر نوفمبر الماضي تحركاته.
وأكدت مصادر في المعارضة لـ «صحراء ميديا» أن أكثر من سبع اجتماعات على مستوى رفيع، جمعت قادة أحزاب تواصل والتكتل واتحاد قوى التقدم، وهي الأحزاب التي طالما شكلت النواة الصلبة للمعارضة الموريتانية خلال السنوات الأخيرة.
ولكن أحزاب التكتل واتحاد قوى التقدم وإيناد رفضت الحديث عن أي تنسيقية سياسية جديدة، الهدف الذي يتحرك من أجله حزب (تواصل)، وأكدت هذه الأحزاب أنه قبل الحديث عن المستقبل لا بد من تقييم «صريح» لتجارب المعارضة في الماضي.
لقد أصر التكتل واتحاد قوى التقدم على ضرورة التقييم، ومعرفة مكامن الخلل الذي يدفع دوماً مشاريع المعارضة نحو التفكك، ووجهت بشكل صريح أصابع الاتهام لحزب (تواصل) بأنه كان سبباً دائماً في خرق الإجماع، ولكن (تواصل) رفض الحديث عن الماضي.
قال مصدر من اتحاد قوى التقدم لـ «صحراء ميديا» إن (تواصل) هو الذي خرق الإجماع داخل «الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية»، عندما رشح رئيسه آنذاك محمد جميل منصور لرئاسيات (2009) في مواجهة مسعود ولد بلخير، مرشح الإجماع داخل الجبهة.
ويضيف المصدر أن (تواصل) خرق بعد ذلك الميثاق الموقع من طرف «منسقية المعارضة الديمقراطية»، عندما قرر المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2013، رغم مقاطعتها من طرف المعارضة، ومؤخراً فشل «المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة» في الاتفاق على مرشح موحد للرئاسيات، لأن (تواصل) رفض ترشيح محمد ولد مولود، ودعم مرشحاً من خارج المعارضة هو الوزير الأول الأسبق سيدي محمد ولد ببكر، وفق تعبير المصدر.
ويعلق مصدر آخر من حزب التكتل قائلاً إن طريق التنسيق مع حزب (تواصل) أصبح مسدوداً، قبل أن يضيف: «لقد انكسرت الثقة بيننا، ووقع الطلاق ثلاث مرات، لذا لا مستقبل للتنسيق معاً، فالحزب هو المسؤول عن اختلال كل التشكيلات السياسية لعدم وفائه بالعهود».
كانت الأمور واضحة بالنسبة لحزب (تواصل) ذي الميول الإسلامية، فمنذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة والعلاقة متوترة مع حزبي التكتل (اشتراكي) واتحاد قوى التقدم (يسار)، وبالتالي لم يكن من المستبعد أن يرفضا التنسيق معه سياسياً، وفق ما قال مصدر قريب من الحزب لـ «صحراء ميديا».
ويضيف المصدر أن الحزب الإسلامي يرى في إصرار التكتل وقوى التقدم على العودة إلى الماضي «نوعا من التحجج وعدم الرغبة في التنسيق السياسي»، خاصة وأن الحزبان شكلا مع حزب التناوب الديمقراطي (إيناد) قبل الرئاسيات «ائتلاف قوى التغيير الديمقراطي»، وما يزال هذا الائتلاف ينشط ويصدر البيانات.
المصادر تتحدث عن جولة أخرى من المفاوضات جرت بين الطرفين نهاية شهر رمضان الماضي، ولكنها لم تفض إلى نتيجة، بل إنها تسببت في تعميق الخلاف أكثر، خاصة فيما يتعلق بقراءة كل طرف سياسي للتعامل مع النظام الحالي، فقد بدا واضحاً أن الأحزاب التي قادت قاطرة المعارضة لسنوات، تتجه نحو «القطيعة النهائية» لترتسم بذلك ملامح مشهد جديد.
صراع الإخوة !
يمكن وصف أحزاب تكتل القوى الديمقراطية واتحاد قوى التقدم، إضافة إلى حزب التناوب الديمقراطي (إيناد)، بأنها القطب الذي يمثل «المعارضة التقليدية» من خلال «ائتلاف قوى التغيير الديمقراطي» الذي خاض الرئاسيات الأخيرة داعماً لترشح محمد ولد مولود، ولكنه مُني بخسارة ثقيلة (نسبة 2,4 في المائة من الأصوات).
الائتلاف حظي بالاحتفاء من الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، عندما بدأ مشاوراته مع قادة الطيف السياسي بعد وصوله إلى الحكم، وهو احتفاء وإن كان يحترم تاريخ الأحزاب المشكلة للائتلاف، إلا أن أطرافاً أخرى في المعارضة رأت أنه لا يتماشى مع الحجم السياسي لأحزاب الائتلاف، في حين يتم التقليل من أهمية حزب (تواصل)، ولا يُتعامل معه تماشياً مع موقعه في صدارة المعارضة.
العلاقة بين حزب (تواصل) و(ائتلاف قوى التغيير الديمقراطي) ظلت طيلة الأشهر الماضية متوترة، وأشبه ما تكون بـ «صراع الإخوة الأعداء»، وقد نجح الائتلاف في تحقيق مكاسب سياسية كبيرة حين طرح فكرة تشكيل لجنة تحقيق برلمانية لفتح ملفات العشرية الأخيرة، وحصل على دعم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، وهو ما شكل ضربة قوية لحزب (تواصل) وتجاوزاً له بصفته الحزب المعارض الأكثر تمثيلاً في البرلمان، ولكن الحزب استطاع أن يكون شريكاً في تشكيلة اللجنة، فحصل على مقعد في اللحظات الأخيرة.
المصادر تفيد بأن حزب (تواصل) لم يكن متحمساً لفتح ملفات الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، بل إنه كان أكثر تطلعاً لخوض معركة المعارضة ضد الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني، وتضيف المصادر أن ذلك يتماشى مع «واقعية سياسية» طالما تميز بها الحزب الذي يحاول طي صفحة الماضي والتطلع نحو الحاضر والمستقبل، والحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية.
أما (ائتلاف قوى التغيير الديمقراطي) فقد كانت لديه وجهة نظر مختلفة جذرياً، إذ يؤمن بالارتباط الوثيق بين الماضي والمستقبل، وذلك ما جعله يطرح فكرة «لجنة تحقيق» برلمانية لفتح ملفات ولد عبد العزيز، ويصر على العودة إلى الماضي لتقييم العلاقة مع (تواصل) قبل التخطيط للمستقبل، إنه يضعهما في سلة واحدة، هي «سلة الماضي».
مسار الإسلاميين
قبل أسبوع أطلق حزب (تواصل) مبادرة جديدة من أجل تشكيل «تنسيقية سياسية» تجمع الطيف المعارض، وأكدت مصادر «صحراء ميديا» أن الحزب وجه رسائل لكافة الطيف السياسي «المعارض» في البلاد، ولكن هذه المصادر استبعدت أن يلبي (ائتلاف قوى التغيير الديمقراطي) الدعوة بسبب التجارب السابقة وفشل محاولات التقارب مع (تواصل).
استجاب للدعوة ممثلون عن حزب (الصواب) القومي البعثي، وحزب (المستقبل) ذي الخلفية الحقوقية، وحزب (القوى الجمهورية للديمقراطية والوحدة)، بالإضافة إلى ممثل عن (تحالف التعايش المشترك) الذي دعم ترشح كان حاميدو بابا في الرئاسيات الأخيرة، ولكنه شهد قبل عدة أشهر انقسامات حادة.
اتفقت الأحزاب المجتمعة في ضيافة (تواصل) على «تعميق وتوسيع التشاور، بما يعزز قيام المعارضة الديمقراطية بكامل دورها بفعالية وتنسيق»، ولكن لم يصدر عن الاجتماع أي تفاصيل بخصوص ملامح مستقبل هذا التنسيق السياسي.
إيرا وافلام
وفيما يحتدم الصراع السياسي بين الإسلاميين من جهة، والتكتل واتحاد قوى التقدم من جهة أخرى، كان الناشط الحقوقي والسياسي بيرام ولد الداه اعبيد، زعيم حركة (إيرا) غير المرخصة، يصل إلى العاصمة نواكشوط بعد أشهر من الغياب في رحلة علاجية قادته إلى بروكسيل.
كان أول نشاط قام به ولد اعبيد هو زيارة رئيس حركة (افلام) صامبا تيام في مكتبه بنواكشوط، وهي خطوة سياسية تكشف الرغبة في تطوير العلاقة بين (إيرا) و(افلام) التي هي علاقة قديمة ومعقدة جداً، وإن كانت (افلام) ممثلة في زعيمها صامبا تيام قد دعمت «علناً» ترشح كان حاميدو بابا للرئاسيات الأخيرة، وكانت تنشط بقوة في « تحالف التعايش المشترك»، إلا أن وجوهاً أخرى بارزة في (افلام) كانت تدعم بشكل صريح ترشح ولد اعبيد الذي حقق أرقاما مريحة في معاقل الحركة.
ولكن حركة (افلام) واجهت اتهامات بالتورط في أحداث العنف والشغب التي أعقبت الانتخابات الأخيرة، واعتقل زعيمها صامبا تيام وخضع للتحقيق، وهو الذي شارك في مظاهرات غاضبة قبيل إعلان النتائج تتهم السلطة بالتزوير، وشهدت هذه المظاهرات أعمال عنف وصدامات بين المحتجين وقوات حفظ الأمن.
كان واضحاً الدور المحوري الذي تلعبه حركة (افلام) في تشكيل (تحالف التعايش المشترك) الداعم لترشح كان حاميدو بابا، ولكن عندما انتهت الانتخابات وطويت صفحة الأحداث التي أعقبتها، بدأت محاولات تحويل التحالف نحو إطار سياسي جامع لأحزاب المعارضة الأفريقية (البانافريكان)، ولكن سرعان ما دب الخلاف وتفكك التحالف.
بدأ الخلاف عندما أعلن كان حاميدو بابا رئيساً للتحالف في شهر نوفمبر من العام الماضي، وهو ما لقي معارضة قوية من زعيم حركة (افلام) صامبا تيام ورئيس حزب التحالف من أجل العدالة والديمقراطية إبراهيما مختار صار، وقادة عدد من هيئات المجتمع المدني والعمل الحقوقي.
اليوم تتجه حركة (افلام) نحو تنسيق سياسي «متطور» مع زعيم حركة (إيرا)، فيما توجهت شظايا (تحالف العيش المشترك) نحو الائتلاف الذي يسعى الإسلاميون لتأسيسه، نفس التحالف الذي دخله حزب (الصواب) القومي، الذي يقف وسط عاصفة من التحالفات المتناقضة، ما بين الإسلاميين وإيرا وافلام والعيش المشترك.