أصابت جائحة «كورونا» قطاعات واسعة من الاقتصاد الموريتاني بالشلل، إلا أنها أنعشت بشكل غير مسبوق قطاع التنقيب السطحي عن الذهب، فوصلت عائدات المنقبين إلى مستويات قياسية، متجاوزة أكثر من نصف طن من الذهب في غضون شهرين فقط، فيما دخلت خزائن البنك المركزي الموريتاني كمية من الذهب وصلت قيمتها إلى حوالي 100 مليار أوقية قديمة منذ بداية الجائحة فقط.
ولكن اللافت في هذه الأرقام هو أن التنقيب عن الذهب بوسائل تقليدية نجح خلال شهرين فقط (منذ 15 مارس الماضي) في أن يحقق عائدات تقترب كثيراً مما حققه خلال أكثر من ثلاث سنوات (منذ نهاية 2016)، وهو ما يعتقد المختصون في التنقيب والمستثمرون فيه أنه يعود للظروف الناتجة عن جائحة «كورونا».
يقول أحد المنقبين معلقاً على الأمر: «لقد كان كورونا هو السبب.. فكما يقولون: مصائب قوم عند قوم فوائد»، ولكن «صحراء ميديا» في إطار تقصيها للموضوع، طرحت على العديد من الناشطين في قطاع التنقيب عن الذهب السؤال التالي: «كيف استفدتم من جائحة كورونا ؟».
مناطق جديدة
تشير الإحصائيات إلى أن عدد المنقبين عن الذهب في ولاية تيرس الزمور وحدها، يزيد على 13 ألف منقب، أغلبهم في مقالع على الحدود مع دولة مالي، وتحديداً منطقة «كَليب اندور»، المرخصة داخل المنطقة العسكرية المغلقة، ولكن مع انشغال الجيش بتطبيق قرار إغلاق الحدود، وجد المنقبون أنفسهم خارج دائرة المراقبة، فتسللوا نحو مناطق تنقيب غير مرخصة.
وبحسب من تحدثت إليهم «صحراء ميديا» من المنقبين فإنهم دخلوا مناطق «تنومر» و«بواعميمه» و«آمريق»، وهي مناطق بكر وغنية بالمعدن الأصفر، حسب ما يتداوله المنقبون.
يعتقد المنقبون أن السلطات كانت تعلم دخلوهم لهذه المناطق، ولكنها فضلت التغاضي، فكان ذلك سبباً مباشراً في ارتفاع إنتاج المنقبين الذين كانوا يسابقون الزمن، قبل انتهاء الجائحة.
من جهة أخرى ساهمت إجراءات الحد من انتشار «كورونا» في منع حركة المنقبين بين الولايات، وبالتالي بقي عدد كبير منهم في مناطق التنقيب، وهو ما أدى إلى استمرار العمل لفترة أطول، وبالتالي ارتفع مستوى الإنتاج.
نصف طن ذهب !
الأرقام التي حصلت عليها «صحراء ميديا» من مصادر خاصة داخل مجال التنقيب السطحي عن الذهب في تيرس الزمور، تشير إلى أن المنقبين استخرجوا منذ 15 مارس الماضي أكثر من 500 كيلوغرام من الذهب (نصف طن)، وهو رقم كبير جداً بالمقارنة مع 1000 كيلوغرام أنتجوها قبل الجائحة، أي طيلة الفترة الممتدة من ديسمبر 2016 (بداية التنقيب) وحتى مارس الماضي، أي أكثر من ثلاث سنوات.
من جهة أخرى، اشترى فرع البنك المركزي الموريتاني بازويرات كمية من الذهب، منذ مارس الماضي، وصلت قيمتها إلى حوالي 100 مليار أوقية قديمة، بينما سبق أن اشترى 120 مليار أوقية قديمة طيلة ثلاث سنوات قبل الجائحة !!
يعتقد محمد ولد بوطو، رئيس المكتب المشرف على معالجة الحجارة المشبعة بالذهب في ازويرات، أن الارتفاع الكبير لعائدات التنقيب عن الذهب على الدولة يعود إلى «اختفاء السوق السوداء»، وأوضح ولد بوطو أن تعليق الرحلات الجوية الدولية قطع بشكل تام الصلة بالسوق السوداء، وهو ما أدى إلى توقف نزيف كميات كبيرة من الذهب كان يتم تصديرها بطرق «غير شرعية» نحو الخارج.
وأضاف ولد بوطو أن جائحة «كورونا» التي ضربت اقتصاد العالم، تسببت في ارتفاع أسعار الذهب بصفته «عملة آمنة»، مشيراً إلى أن سعر الكيلوغرام الواحد من «ذهب عيار 24» ارتفع خلال الجائحة من 14 مليون أوقية قديمة إلى 21 مليون.
جانب اجتماعي
يقول منقبون إن الأرباح التي حققوها خلال الشهرين الأخيرين مكنتهم من المساهمة في خطة الحكومة للحد من آثار الجائحة على السكان، ذلك ما أكده نائب رئيس مكتب اتحادية المنقبين معاوية ولد انتهاه، خلال لقاء مع «صحراء ميديا»، حين قال إن المنقبين يحولون الأموال يوميا إلى أكثر من 10 آلاف أسرة في مختلف مناطق موريتانيا، مشيراً إلى أن «أكبر تحويلات مالية أجرتها وكالات تحويل الأموال في ظل الجائحة، كانت من مدينة ازويرات».
من جهة أخرى وزع مكتب اتحادية المنقبين كميات من المواد الغذائية على 1000 أسرة، بالتنسيق مع السلطات المحلية في ولاية تيرس الزمور، وشملت عمليات التوزيع مدن ازويرات وافديرك وبير أم غرين، كما فتحت اتحادية المنقبين 9 محلات لبيع المواد الغذائية بأسعار مخفضة، وفي كل حانوت تباع بضاعة واحدة منعاً للزحام.
وقال محمد ولد بوطو، رئيس المكتب المشرف على معالجة الحجارة المشبعة بالذهب في ازويرات في حديث مع «صحراء ميديا» إنهم كفاعلين اقتصاديين يسعون من خلال هذا النشاط الاجتماعي إلى «مساعدة السلطات في التخفيف من الآثار السلبية للجائحة على السكان».
حماية المنقبين
لا تتوقف الحركة في مركز معالجة الحجارة المشبعة بالذهب بالقرب من ازويرات، فأكثر من 500 ماكينة تعمل في نفس الوقت لطحن الحجارة القادمة على متن شاحنات من مقالعها في عمق الصحراء، فتملأ هذه الماكيناتُ الهواء بغبار أطنان الحجارة، وترمي غرامات الذهب في جيوب المنقبين؛ يقول ولد بوطو لـ «صحراء ميديا»: منذ بداية الجائحة وجميع ماكينات الطحن تعمل في نفس الوقت، بعد أن كان أغلبها متوقفاً لعدة أشهر.
ولكن مع بداية الجائحة كان لا بد من اتخاذ إجراءات لمنع وصول الفيروس إلى آلاف العاملين في مراكز طحن الحجارة أو مواقع التنقيب البعيدة، ذلك ما أكده محمد ولد المصطفى ابريكه، رئيس مركز ازويرات للتعدين التقليدي التابع للمديرية العامة للمعادن، في حديث مع «صحراء ميديا».
وقال ولد المصطفى ابريكه إنه بتعليمات من الوالي وبالتعاون مع اتحادية المنقبين قرر توقيف العمل في مركز معالجة الحجارة لأربعة أيام، تم خلالها تنظيفه وتعقيمه، وتحديد معايير جديدة للسلامة تتمثل في ارتداء الكمامات والقفازات والنعل الواقي، بالإضافة إلى الإبقاء على عامل واحد على كل ماكينة بدل أربعة في السابق.
وزارت بعثة تضم قطاعات الصحة والمعادن والبيئة، مواقع التنقيب على الحدود، للتأكد من عدم وجود أجانب أو متسللين، وقال نائب رئيس مكتب اتحادية المنقبين معاوية ولد انتهاه، لـ «صحراء ميديا» إنه تم تشكيل لجان في مواقع التنقيب تتواصل مباشرة مع السلطات للتبليغ عن أي طارئ.
وقال ولد انتهاه إن هذه اللجان مكنت من إخراج حوالي 165 أجنبيا (يحملون الجنسية المالية) دخلوا مواقع التنقيب بطريقة «غير شرعية».
منقبون متسللون
إن كانت الصورة البادية للعيان توضح التعاون والتنسيق الوثيق بين السلطات والمنقبين لمواجهة «كورونا»، إلا أن صورة أخرى خفية تشير إلى وجود «منقبين متسللين» كسروا في أكثر من مرة الإجراءات التي فرضتها السلطات منذ بداية الجائحة.
فقد سجلت السلطات المحلية بمدينة ازويرات محاولة بعض المستثمرين في قطاع التنقيب التسلل إلى المدينة قادمين من نواكشوط، متنكرين باسم وكالات للنقل الحضري حصلت على تراخيص لنقل البضائع، فمنحته لهؤلاء المتسللين مقابل نقل بضائعها مجاناً.
أوقفت السلطات العديد من هؤلاء «المنقبين المتسللين» وأجبرتهم على العودة أدراجهم، كما أوقفت سيارات بعضهم لعدة أيام حين حاولوا التسلل عدة مرات، وأغلقت وكالة نقل ثبت تورطها في منح تراخيص وهمية للمتسللين، وهددت بإغلاق أخريات.
كما أنه مع اقتراب موعد عيد الفطر، نهاية شهر مايو الماضي، نجح العديد من المنقبين في التسلل من تيرس الزمور نحو أسرهم في مناطق متفرقة من البلاد، وعادوا إلى ازويرات بعد العيد دون أن يمروا على أي حواجز أمنية، مستغلين القدرات الكبيرة لسيارات جديدة عابرة للصحاري، اشتروها من عائدات التنقيب عن الذهب خلال الشهرين الأخيرين.
وقال مصدر مطلع لـ «صحراء ميديا» إن المنقبين عن الذهب خلال الأسابيع الماضية اشتروا المخزون الكامل لممثلية إحدى شركات السيارات رباعية الدفع، نفس السيارات التي عبرت الصحراء بين تيرس الزمور في أقصى الشمال، والحوضين وبقية الولايات في أقصى الجنوب.. بعض تلك الولايات سجلت فيه إصابات مؤكدة بالفيروس.
أمام عمليات تسلل المنقبين، دقت السلطات في تيرس الزمور ناقوس الخطر، فاحتجزت سيارات عشرات المنقبين اثناء عودتهم من مواقع التنقيب، ودعت لاجتماع طارئ مع اتحادية المنقبين، بحضور أعضاء اللجنة الجهوية لمكافحة فيروس «كورونا»، تحدث خلاله الوالي إسلم ولد سيد عن خطورة التسلل على الولاية التي ما تزال خالية من الوباء، مشيراً إلى أن «ظهور أي إصابة بالفيروس في ازويرات سيقود إلى توقيف نشاط التنقيب في الولاية».
أما حاكم ازويرات امخيطرات ولد محمد فال فقد قال للمنقبين، وهو يفرج عن سياراتهم المحتجزة، إن تسللهم للولاية يهدد صحة السكان وحياتهم، قبل أن يكرر تهديد الوالي محذراً من الإضرار على التسلل لأنه قد يفضي إلى إنهاء التنقيب السطحي عن الذهب.. تهديد يبدو أنه يخيف المنقبين أكثر من الفيروس نفسه.