في الثالث من مايو من كل عام تحتفل الجمعية العامة للأمم المتحدة باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي تم إقراره في شهر ديسمبر من عام 1993، بناء على توصية من المؤتمر العام لليونسكو. ويتم الاحتفال بهذا اليوم بهدف التأمل في القضايا الجوهرية ذات الصلة بحرية الصحافة وأخلاقيات المهنة.
في هذا اليوم من عام 2020 كتب الرئيس الموريتاني السيد محمد ولد الشيخ الغزواني على حسابه في تويتر : “بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة أهنئ جميع منتسبي مهنة المتاعب في بلدنا، وأثمن الدور الذي قامت به صحافتنا في التصدي لجائحة كورونا، وأجدد التأكيد على دعم وترسيخ حرية الصحافة. بالتشاور بين القطاعات الحكومية المعنية والتجمعات الصحفية سنعمل على تطوير وتمهين الحقل الصحفي”. وقد استوقفتني هذه التغريدة لعدة اعتبارات :
أولا : استشعار رئيس الجمهورية لهذا الحدث الذي حرص على عدم تفويته، وهو دليل اهتمام به وبالعاملين به، فلو كان الأمر عاديا بالنسبة له، كما كان عاديا لمن سبقه، لم يكن ليتوقف عنده أو يستشعر أهمية مشاركة المنتمين إليه هذه المناسبة.
ثانيا : وقفت عند العبارة المنتقاة، والتي تعبر عن واقع صحافتنا الحقيقي، والفيروس المزمن المستعصي على العلاج منذ انطلاق مشايع قوانين حرية الصحافة بدءا بالقانون رقم:109/1963 الصادر بتاريخ 27 يونيو 1963 المنظم لحرية النشر، وانتهاء بالقانون رقم:054/2011 الصادر بتاريخ24 نوفمبر 2011 المعدل للقانون رقم: 025/2011 الصادر بتاريخ 08 مارس 2011 ، المعدل هو الآخر للقانون الأهم في هذه المنظومة التشريعية برمتها وهو الأمر القانوني رقم:017/2006 الصادر بتاريخ 2 يوليو 2006 عن المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية. والحقيقة أن ما أشرت إليه بمتلازمة انعدام التمهين قد حولت هذا الحقل المهم إلى حقل مريض ولايعبر حقيقة، ولايواكب كما هو مفترض، نمو دولة فتية تتطلع لمستقبل ديمقراطي واقتصادي مزدهر، لديها وسائل ذلك وباتت تمتلك الإرادة الفعلية لتحقيقه.
وهنا أسجل ملاحظة مهمة، وهي إسقاط إشارات رئيس الجمهورية على الواقع، فقد كان الرئيس واعيا لما يقول تماما، حيث بدأ فخامته الخطوات الفعلية لتصحيح وضعية تمهين الصحافة عندما أوكل إدارة كل المؤسسات الإعلامية إلى متخصصين من أبناء القطاع، وهي ظاهرة عملية هي الأولى من نوعها، فمنذ تدشين إذاعة موريتانيا في نواكشوط بدلا من سنلوي في 27 من سبتمبر عام 1959 ، والوكالة الموريتانية للأنباء فاتح يوليو من عام 1975 ، والتلفزيون الرسمي في سبتمبر من عام 1982 ، ظلت التعيينات على راس هذه المؤسسات تعيينات سياسية بامتياز، ورغم حالات التململ والامتعاض أحيانا، فلم يؤثر ذلك في توجهات الأنظمة المتعاقبة، وإن كانت محقة في ذلك بالنظر إلى أهمية هذه المؤسسات للسلطة، وهي أهمية لاتتعارض مع إدارتها من طرف مختصين في إدارة المؤسسات الإعلامية، أو مكافأة وترقية أبناء القطاع خاصة من أصحاب التجربة والممارسة. وبالتالي أسجل إشادتي بهذه الخطوة وتقديري لها، راجيا أن تسهم في تحقيق رؤية رئيس الجمهورية في تنمية وتطوير وتمهين هذا القطاع.
أسجل هنا ملاحظة أخرى، ربما ذات صلة بالتوجيهات الجديدة، وتتعلق برفع سقف التعاطي الحكومي مع ماينسر في المواقع الإخبارية، وإن كنت أشفق حقيقة على المؤسسات الحكومية من ذلك، لأنه قبل التعاطي مع هذه المواقع يشترط أن تمتثل أولا لمقتضيات الأمر القانوني رقم:017/2006 المنظم لحرية الصحافة، وأن توجد بيئة مواتية للتعاطي مع هذه المواقع، ونحن لانزال نتحدث عن مواقع بدل الحديث عن مؤسسات صحفية وكيانات إعلامية، ولكن لتكن هناك بيئة مواتية من حيث المصداقية والموضوعية والتحقق من مصادر الأخبار، وعندها تكون لدينا صحافة حرة تستطيع أن تكتب وتنقد وتفند في حدود القانون، ويترتب على المؤسسات الحكومية في هذه الحالة واجب الرد والدفاع عن مكتسباتها بالطرق المعتادة من حق الرد ونشره أولا، واللجوء إلى القضاء ثانيا إن تطلب الأمر. وبالمناسبة في الدول التي تمتهن الصحافة كمهنة، هناك جهات رسمية تتابع ماينشر في وسائل الإعلام وتحاسب وتكافئ عليه وفقا للسلطات التقديرية العليا، ولكن في الدول التي تنظر إلى الصحافة كمهنة وسلطة.
قبل أيام وفي مؤشرها السنوي، أصدرت منظمة “مراسلون بلا حدود”، تصنيفها للعام 2020، لمؤشر حرية الصحافة حول العالم، وقد جاءت موريتانيا في المرتبة الثالثة عربيا (97 عالميا) وذلك بعد تونس التي جاءت في الصدارة عربيا (72 عالميا)، وجزر القمر التي حلت في المرتبة الثانية عربيا (75 عالميا) . وفي الحقيقة لايقدم هذا المؤشر معيارا قيميا لمهنية الصحافة، ولا تقييما جوهريا لدورها التنموي، ولا غطاء أخلاقيا لمصداقيتها ولانزاهتها، ولو قارنا هذا المؤشر بغيره من المؤشرات المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والتنمية البشرية، لوجدناه بعيدا كل البعد عن الواقع، والمثير في الأمر أنه طيلة السنوات السابقة التي كانت موريتانيا تعاني من عجز متكامل في مختلف المؤشرات، كانت موريتانيا تتصدر هذا المؤشر الفارغ. ومن ثم أسجل عدم الاهتمام حقيقة بهذا المؤشر وفقا للمعطيات الحالية، ولكن كم سأشعر بالفخر عندما تتصدر موريتانيا مؤشر حرية الصحافة بصحافة مهنية حقيقة ذات دور فاعل في التنمية والتقدم وازدهار المجتمع، لا أن تكون صحافة صفراء تقتات في الغالب من أثدائها، ولاتقدم مساهمة أكثر من بث النعرات والفئوية والشائعات التي تصل في بعض الأحيان حد تهديد أمن وسلم وسكينة المجتمع.
نحن بحاجة لتفعيل المؤسسات الإعلامية، وبحاجة أكثر لإنفاذ قوانين السلطات الإشرافية والمساندة لهذه المؤسسات، فمنذ صدور القانون رقم 026-2008 الذي يعدل ويحل محل الأمر القانوني 034- 2006 المنشئ للسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، والقانون القانون رقم 045-2010 المتعلق بالاتصال السمعي البصري، لم نلاحظ حضوريا فعليا لهذه المؤسسات والتي لحقت بها مؤخرا سلطة الإشهار. ولاداعي هنا للحديث عن ماهو مطلوب من هذه المؤسسات والسلطات، فكل ما أرجوه أن تستفيد هذه المؤسسات من النفس الجديد، والطاقة الإيجابية لاستغلالها وتوجيهها التوجيه السلم خدمة للمشروع التنموي والوطني الذي تحتاجه موريتانيا.