عند مصب نهر السنغال في المحيط الأطلسي، يلتقي التاريخ بأحلام المستقبل، فمن هناك مرّ القراصنة الأوروبيون قبل عدة قرون، وعادوا مستعمرين بعد ذلك على هيئة تجار، وهناك بقي الإنسان محتفظاً ببساطته وقناعته وقدرته على الصمود، فلم يتغير الكثير من أساليب العيش: صيادون ومزارعون، يعيشون في عزلة شبه تامة عن العالم.
مدينة انجاكو الموريتانية، تنام على ثلاث جزر متناثرة عند مصب النهر، ويربطها ممر ترابي بمدينة «سينلوي» السنغالية، والصلة بين المدينتين قديمة ومتجذرة، تعد نموذجاً مصغراً للعلاقة التي تربط موريتانيا بالسنغال، بلدان يربطهما التاريخ والمستقبل والكثير من الأشياء المتداخلة.
عندما زارت «صحراء ميديا» هذه المدينة انقطعت تغطية أغلب شركات الاتصال الموريتانية، فحضرت الشركات السنغالية التي يستخدمها السكان، حتى أن شبكة الانترنت المنزلي في انجاكو كانت «سنغالية»، بينما يتوجه أطفال انجاكو كل ليلة إلى سينلوي للترفيه ومشاهدة السينما، ويجلب التجار بضاعتهم من سينلوي لبيعها في المدينة، فالحركة بين المدينتين لا تنقطع ولا تتوقف.
يبلغ تعداد سكان بلدية انجاكو حوالي عشرين ألف نسمة، يعيشون على الزراعة والصيد، ولم يكونوا حتى وقت قريب يدركون أن أرضهم المعزولة بين أذرع النهر وحضن المحيط، ستكون مركز الاهتمام العالمي بين عشية وضحاها، حين اكتشف الأمريكيون قبالتها كميات هائلة من الغاز الطبيعي، وها هم البريطانيون يستعدون لاستخراجها.
وإن كانت اكتشافات الغاز قد كسرت عزلة هؤلاء السكان البسطاء، إلا أنها في المقابل حملت معها أحلاماً كبيرة بإحداث نقلة نوعية في حياتهم، وحل المشاكل اليومية التي يعانون منها، كنقص المدارس والمستشفيات، وانعدام الطرق وغياب وسائل النقل وسيارات الإسعاف، والنقص الحاد في الماء الصالح للشرب.
يتطلع سكان انجاكو لأن يظهر بريق الغاز على مدينتهم، ذلك ما أكده نائب عمدة البلدية عبدي ولد اياه انتفي في حديث مع «صحراء ميديا»، ولكن هذا المسؤول المحلي لم يخف خيبة أمل السكان حين قال: «من غير المعقول أن يكون عمال شركة الغاز يقضون معظم أوقاتهم في مدينة سينلوي، بحجة أنه لا توجد فنادق في انجاكو».
ودعا ولد اياه انتفي إلى ضرورة العمل على تحسين البنية التحتية في المدينة حتى تكون مؤهلة لأن تستفيد من حالة الانتعاش التي سترافق استغلال حقول الغاز قبالة شواطئها، إنه يسعى لأن تكون مدينتهم الصغيرة قادرة على منافسة شقيقتها الكبرى «سينلوي».
ولكن من الواضح أن انجاكو تحتاج إلى الكثير من العمل، فالمدينة التابعة لإحدى أهم مقاطعات موريتانيا نظراً لموقعها الاستراتيجي، تعاني العطش والعزلة شبه التامة، من ضمن مشاكل تحضر يومياً في نقاشات سكانها الذين التقت بهم «صحراء ميديا».
يقول نائب العمدة: «في السنوات التي أعقبت استقلال البلاد كنا نصل إلى نواكشوط بعد ساعتين فقط من مغادرة انجاكو، ونسلك لذلك طريقاً تمر بمحاذاة شواطئ المحيط الأطلسي، ولكن اليوم وبعد ستين سنة من الاستقلال أصبحنا نصل نواكشوط في خمس ساعات، بسبب سوء الطريق الوطنية».
الوزير الأول اسماعيل ولد ابده ولد الشيخ سيديا أعلن الشهر الماضي، أمام البرلمان، أن الطريق الرابط بين انجاكو وكرمسين ستنتهي الأشغال فيها هذا العام، خبر مفرح بالنسبة للسكان، ولكن العمدة والنائب البرلمان بيجل ولد هميد قال في حديث مع «صحراء ميديا» إن الطريق التي يتحدث عنها الوزير الأول تربط مدينة كرمسين بميناء انجاكو على مسافة 40 كيلومتراً فقط، لتبقى منها 20 كيلومتراً تفصل الميناء عن انجاكو.
ويضيف ولد هميد: «كان من المبرمج أن تصل الطريق إلى انجاكو، ونحن نريدها أن تواصل حتى تصل إلى مدينة (سينلوي) السنغالية، ما المانع من ذلك ؟ فالمسافة بين انجاكو وسينلوي لا تزيد على 16 كيلومتراً، وإذا كانت هنالك طريق معبدة تربط المدينتين ستحمل معها فوائد اقتصادية كبيرة جداً».
ولد هميد الذي كان في قلب العاصفة السياسية التي مرت بها موريتانيا شهر نوفمبر الماضي، فضل العزلة في مدينته على ضفاف المحيط والنهر، ولكنه يعتقد أن المنطقة مقبلة على تغيرات هامة يجب أن تؤثر إيجاباً على حياة سكان انجاكو.
يقول ولد هميد في حديثه مع «صحراء ميديا» إنه على الرغم من أن استخراج الغاز لن يبدأ إلا في العام 2022، إلا أن «هنالك عملا يجري، ويحتاج اليد العاملة»، قبل أن يضيف: «هنالك أيضاً تحرك مهم تقوم به منظمات غير حكومية، بإشارة ودعم من شركة (بريتش بترليوم) لتوفير جو هادئ للقيام بعملهم».
ويعلق ولد هميد على ما تقوم به الشركة البريطانية: «لديهم برامج طموحة تتعلق بالتنمية المحلية، من ضمنها تنشيط قطاع الصيد والزراعة والثروة الحيوانية»، وكانت الشركة قد أعلنت عن مشاريع لدعم سكان منطقة انجاكو، من ضمنها صندوق للقرض والإدخار ومشاريع لدعم الزراعة والتنمية الحيوانية.
خلال زيارة «صحراء ميديا» لمدينة انجاكو، حضرت لقاء نظمته الشركة البريطانية مع السكان المحليين، تحت خيام صغيرة نصبت على شاطئ المحيط الأطلسي، وعلى وقع طبول أفريقية تقرعها فرقة فنية سنغالية قدمت من «سينلوي»، رقص وغناء وأحاديث، وكل ذلك يرسم لوحة مختلطة، حيث تمتزج الملحفة بالثوب الأفريقي، والحسانية بالولوف، والجميع يفهمون الحديث.
حاولت الشركة أن تشرح للسكان الفرص التنموية المقدمة لهم، وكيف وضعت استراتيجية للتنمية المحلية، بينما كان السكان يرفعون مطالب بتوفير الصحة والماء الصالح للشرب والتعليم والنقل وتسهيل القروض الميسرة، رد عليهم أحد عمال الشركة: «نحن نهتم بالجانب التنموي في حدود اختصاصنا، ولكن سندرس طلباتكم».
وإن كان أغلب سكان انجاكو يحلمون بالنعيم بعد اكتشاف الغاز قبالة سواحل مدينتهم، على غرار بقية الموريتانيين والسنغاليين، إلا أن سيدة تدعى امباركه شقران أصرت على أن تظهر لنا وجهة نظر أخرى لدى بعض السكان، من الذين يخشون الغاز ويتوجسون منه خيفة.
تقول هذه السيدة المزارعة التي تبيع الخضروات على بسطة متواضعة: «ما نخشاه هو أن يجلب الغاز الشركات الكبيرة لتحتل أرضنا وتفسد حياتنا، ويتم ترحيلنا من هنا، نحن نحب أرضنا أكثر من الغاز ومن المال الذي لن يحل مشاكلنا».
وتختم امباركه حديثها بالقول إن «أطفالنا يقطعون يومياً ست كيلومترات من أجل الوصول إلى المدرسة، فغادرها أغلبهم لعدم قدرتهم على المواصلة، ونعاني أيضاً من مشاكل حادة في النقل، وننقل المرضى على متن عربة تجرها الحمير، وأحيانا يموتون على متنها»، قبل أن تضيف بحسرة: «لا أعتقد أن الغاز سيحل هذه المشاكل».
أنهت امباركه حديثها مع موفد «صحراء ميديا» وتوجهت إلى خيام شركة «بريتش بيتروليوم» تبحث عن الاستفادة من قروض تقدمها الشركة للسكان، تريد تمويل مشروع صغير يدر عليها بعض المال، متمسكة بخوفها من أن تصل اكتشافات الغاز إلى حقلها الصغير قرب انجاكو.