أحيى رموز اليسار السياسي والحركة التقدمية في موريتانيا، أمس الثلاثاء، الذكرى الخمسين لوفاة سيدي محمد ولد السميدع، أحد أشهر مؤسسي حركة الكادحين في ستينيات القرن الماضي، والذي تحول بعد وفاته إلى «رمز» للحركة.
ولد السميدع الذي اشتهر اختصاراً بلقب «سُميدع»، توفي وهو شاب في مقتل العمر، إذ لم يتجاوز الرابعة والعشرين (1946 – 1970)، وكان لوفاته وقع كبير على رفاقه في المسار السياسي، وهو ما بدا واضحاً في أحاديثهم عنه.
كان «سُميدع» ينتمي لجيل من الشباب الذي يعتبر أن استقلال موريتانيا عن فرنسا عام 1960 استقلالاً ناقصاً، ويرفعون في وجه نظام الرئيس الراحل المختار ولد داداه مطالب عديدة من أبرزها تعزيز الوحدة الوطنية والتعريب.
وتقول المصادر إن «سُميدع» ولد في مدينة أطار، شمالي البلاد، رغم أن والده ينحدر من الجنوب، ولكنه كان يعمل في سلك التعليم مدرساً للغة العربية، ويعد أحد رواد الحركة القومية، استطاع فيما بعد أن يقود نقابة معلمي اللغة العربية.
ترعرع «سُميدع» في بيت مسكون بهموم القومية العربية، والدفاع عن اللغة العربية التي لم تكن آنذاك مدرجة في مناهج التدريس، فكان الفتى نحيل الجسد ضعيف البنية شجاعاً حين وقف أمام المختار ولد داداه خلال زيارته لثانوية نواكشوط وطالبه بإدخال اللغة العربية للمناهج.
وكتب الوزير السابق عبد القادر ولد محمد حول هذه القصة: «حدثنا فرانسيس دي شاسي قال: وصلت إلى نواكشوط في بداية عقد الستينات، وتزامن وصولي مع افتتاح الثانوية الوطنية، فدخل علينا رئيس الجمهورية بالقاعة أثناء حصتي الأولى، وفجأة وثب شاب صغير، يكاد يطير من الحماس المتدفق، وخاطبه قائلاً: كيف يعقل أن تدرسوا أجيال المستقبل بلغة المستعمر ؟.. نريد ترسيم اللغة العربية وتعليمها حالاً».
يضيف عبد القادر ولد محمد في منشور على الفيسبوك: «كان ذلك الفتى صاحب الانتفاضة من أجل لغته الأم، هو بدر الزمان الموريتاني المناضل سميدع، الذي توفي يوم 7 يناير 1970».
«سُميدع» رغم أن عمره النضالي لم يزد على سنوات قليلة، إلا أنه شهد الكثير من المحطات، فقد اشتهر في الأوساط النقابية وكان يتصدر صفوف المطالبين بترسيم اللغة العربية، وأصدر مجلة (موريتانيا الفتاة)، كما قاد بعد ذلك إضراب 9 فبراير المناهض لحركة رفض تدريس العربية، وقد قاده ذلك إلى السجن يناير 1966.
يقول أقران «سُميدع» إن دخوله إلى السجن غير نظرته للأمور، فأدرك حينها أن الاستعمار هو العدو الحقيقي للوحدة الوطنية، وأنه من أجل الحصول على الاستقلال الحقيقي لا بد من «توحيد الشعب بمختلف قومياته»، ومن هنا بدأ يفكر في تأسيس «حركة وطنية».
حضر «سُميدع» في قيادة الحراك المندد بالعدوان الثلاثي على العرب سنة 1967، وهو الحراك الذي أسفر عن قرار موريتاني غير مسبوق بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة وبريطانيا، كما وقف إلى جانب عمال المناجم عندما كانوا يطالبون بتحسين ظروفهم، ودخلوا في احتجاجات وصدامات مع الأمن سقط فيها العديد من القتلى.
يقول بعض العارفين بالراحل إنه نجح خلال السنوات الأخيرة من ستينيات القرن الماضي أن ينتقل بحركة القوميين العرب التي كان من قادتها، إلى نبذ العنصرية والقومية الشوفينية، وتبني الفكر الوطني الديمقراطي، وهو ما تم بشكل فعلي في مؤتمر (تاكوماجي) عام 1968، ومؤتمر (كيفة) عام 1969.
بعد أن أكمل تعليمه الثانوي، توجه «سُميدع» إلى العاصمة السنغالية دكار، حيث درس في كلية الآداب بجامعة دكار (الشيخ أنتا ديوب)، ولكنه لم يتوقف عن عمله النضالي إذ أصدر من هناك، رفقة بعض الشباب المتحمسين للفكر التقدمي اليساري، نشرية (الكفاح) التي كانت تطبع في دكار وتوزع في موريتانيا، وساهمت بشكل كبير في وضع لبنات حزب الكادحين و«الحركة الوطنية» فيما بعد.
وخلال فترة وجوده في دكار، كان «سُميدع» يقيم في نفس الغرفة بالحي الجامعي مع الوزير السابق والرئيس الحالي للجنة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد فال ولد بلال، الذي كان يدرس آنذاك في كلية الطب.
ويقول ولد بلال معلقاً على تلك الفترة: «كنت أسكن عام 1969، في نفس الغرفة، مع الأخ سيدي محمد ولد سميدع من أكتوبر 69 إلى يناير 1970، تاريخ وفاته تغمده الله برحمته الواسعة. كنت طالبا في كلية الطب وهو في كلية الآداب».
ويضيف ولد بلال في منشور كتبه بعد زيارته لنفس الغرفة شهر أكتوبر من العام الماضي: «وقفت حائرا أمام زحمة المشاعر والأحاسيس والذكريات. وأكثر ما هالني في اللحظة واستحوذ علي هو سميدع: شخصيته الفذة، حياته القصيرة سنّا والطويلة معنىً، إرادته الفولاذية، جديته الخارقة، معيشته الزاهدة، سلوكه الفاضل، نشاطه الكثيف، فكره الخصب، معشره الحلو.. كان قليل الأكل والنوم، متواضعا، ملتزما، صارما مع نفسه، منضبطا».
ويستحضر ولد بلال من ذاكرته قائلاً: «أذكر أنه ملأ جدران الغرفة بصور (كاسترو) و(اتشي غيفارا) و(نايف حواتمه) و(جورج حبش).. وكان كثير المطالعة والقراءة ومعه عشرات الكتب والجرائد والمجلات العربية.. يكره اللغة الفرنسية ولا ينطق بها إلاّ لضرورة قصوى».
وحول نشرية (الكفاح)، يتذكر ولد بلال: «كانت الغرفة ورشة عمل ومقرا رئيسيا لتحرير وطباعة وسحب وترجمة جريدة (الكفاح). ويمكنني القول بأني لم أر شخصا واحدا في دكار على الأقل يتعاون مع الأخ سميدع في إنجاز ذلك العمل الجبار. فهو المحرر والمترجم والطابع والساحب».
ظهرت أعراض المرض على الشاب المفعم بالحماس نهاية عام 1969، وحجز في المستشفى بنواكشوط، قبل أن يتوجه إلى دكار بعد أن تدهورت صحته، وهناك وافته المنية وهو بالكاد أكمل عامه الخامس والعشرين، فيما تشير بعض المصادر إلى أنه كان مصاباً بمرض السل المنتشر بكثرة آنذاك.
وقد نعته صحيفة (صيحة المظلوم) في الذكرى الثانية لرحيله، اي في عدد صادر عام 1972، وتعد هذه الصحيفة لسان حال الحركة الوطنية وحزب الكادحين، فكتبت: «ربما كانت حياته قصيرة لكنها حياة غنية كرسها بالكامل للتضحية من أجل شعبه وتحرير وطنه».
وأضافت الصحيفة في مقال منشور تحت عنوان «الفاجعة الكبرى والسفر الأخير»، أن رحيل سميدع «أربك رفاقه في حين أثلج صدور أعدائه»، ولكن الشاب حين غيبه الموت المفاجئ، تحول إلى «أسطورة» حية بين رفاقه، مازالوا يتذكرونها حتى اليوم، ويجمعهم الحزن عليها بعد أن فرقتهم دروب السياسة.