طوبى.. المدينة المحروسة على غرار أخواتها في الشرق في النجف الأشرف ومشهد وسمرقند، هذه المدن المتميزة بروحانيتها وحضارتها ومدنيتها في آن معا، مدينة مهيبة تشهد عظمة الملك الروحي وسلطة عباد الله الصالحين، تلك المدينة المقدسة عند الطائفة المريدية بناها الشيخ أحمدُ بمب امباكى، مؤسس الطريقة ومرشدها الروحي، أحد أولياء الله العارفين، تشهد له بذلك العامة والخاصة، جاهد النصارى وكانت له وقفات عظيمة أمامهم، وأراهم من الكرامات وخرق العادات ما لا ينكره أحد، كتب الله له العز والتمكين في حياته وبعد مماته.
بقيت الخلافة متسلسلة في أسرته منذ وفاته عام 1927 حتى اليوم، وأصبحت الطريقة المريدية أقوى الطرق على الإطلاق في السنغال، وربما ساهمت في قوتها وحدة المرجعية والولاء المطلق للخليفة العام؛ إنها طريقة إفريقية محضة لم تأت من الجنوب ولا من الشمال، وهو ما دفع «ليوبولد سيدار سنغور» مؤسس الدولة وشاعرها إلى القول: «لو كنت مسلما لكنت مريديا».
عظمة المدينة تظهر جليا في يوم الثامن عشر من صفر من كل عام، حين يخلد منفى الشيخ الخديم إلى الغابون من طرف السلطات الفرنسية، يطلقون عليه «مگال»، تراهم أفارقة وعربا وأوروبيين يتوافدون لتحية الخليفة، تبركا منه وتأكيدا للولاء لشيخ الطريقة، حيث مثواه المبارك في المسجد الكبير الذي يقع وسط المدينة، وترتفع منارته في السماء، وقد زينت بنظام إضاءة متلألئ، وتوجد في أعلاها جوهرة دائرية مشعة تُرى من بعيد، حسب بعض المصادر تحتوي هذه الجوهرة على قطع من الماس والذهب الخالص، بينما يمثل المسجد عزة المدينة وحضارتها فقد بُنِي على مساحة كبيرة وعلى ارتفاع هائل، وتمت زخرفته على نمط العمارة المغربية الأندلسية، وطُرزت أساطينه وجدرانه بزركشة بديعة، وتقع بقرب المسجد قصور ضيافة أُستجلبت لها أحدث الصالونات الإيطالية وجُهزت غرفها وحدائقها لراحة الضيوف.
في ضواحي المدينة تبدأ حقول الفستق المنتشرة عبر الأفق، والتي تعتبر مصدر الدخل الأساسي في طوبى، حيث يباع الحصاد إلى شركة «سوناكوس» المختصة في تكرير الزيوت، وتجني الخلافة ملايين الأموال موسميا من هذه الحقول. أحياء المدينة أُطلقت عليها تسميات عربية مشتقة من التراث الصوفي للشيخ الخديم كحي «جنة المأوى» وحي «دار القدوس» وحي «دار المنن»، توجد في هذه الأحياء فيلاهات فسيحة تابعة لأعضاء أسرة الخلافة بنيت على طراز عصري ورفيع وتقف أمامها سيارات الليموزين الأمريكية الفخمة.
في يوم «ماكَال» تظهر قوة النفوذ السياسي للخلافة في طوبى، يأتي الرئيس قبيل الموعد عادة، وكان عبد الله واد بالإجماع من أبرز الرؤساء ولاء لطوبى، حيث يصف نفسه بالمريد الأول، وعنونت إحدى المجلات صورته وهو يقبِّل يد الخليفة غداة فوزه بالرئاسة: «رئيسٌ مريد أم مريدٌ رئيس ؟»، في حين يأتي الوفد الحكومي وكأنه في جلسة من جلسات مجلس الوزراء في القصر الرئاسي، طوال النهار يتوافد السلك الدبلوماسي ورؤساء الأحزاب السياسية، وليست تلك الزيارة روحية وطلبا للدعاء بالنسبة للسياسيين، بقدر ما هي رغبة في توفير غطاء شرعي لهم وحصولهم على قاعدة عريضة في الانتخابات، وكذلك أعيان ووجهاء المجتمع المدني وممثليات الطرق الصوفية الأخرى، وكأننا في دولة لها قوانينها وحدودها الجغرافية الخاصة.
تتمتع الخلافة في طوبى بتمثيل رسمي وشعبي في المغرب العربي ومصر ودول الخليج وإيران ومعظم الدول الأوربية، كما توجد لها دور للضيافة يتم فيها تخليد أيامهم المقدسة بكل حرية وانتظام.
وقد بدا جليا قوة نفوذ المريدية في تدشين مسجد مسالك الجنان، أكبر مسجد في غرب أفريقيا، وما رافقه من صلح تاريخي بين الرئيسين الحالي ماكي صال وسلفه عبد الله واد، وما أسفرت عنه المصالحة من وفاق سياسي وتهدئة للجو العام، أسفر عنها الإفراج عن عمدة دكار السابق خليفه سال.
لقد انتقلت الخلافة المريدية إلى عهد الأحفاد منذ وفاة الشيخ صالح، وفيما يلي تسلسل الخلفاء المريديين منذ وفاة مؤسس الطريقة الشيخ أحمدُّ بمب رحمة الله عليه وإلى الآن:
الشيخ محمد المصطفى 1927- 1945
الشيخ محمد الفاضل 1945- 1968
الشيخ عبد الأحد 1968 – 1989
الشيخ عبد القادر 1989ـ 1990
الشيخ صالح 1990 – 2007
الشيخ محمد لمين بارَ 2007 ــ 2010
الشيخ سيد المختار 2010ـــــ 2018
الشيخ محمد المنتقى 2018 وحتى اليوم.
وعلى الجانب المعرفي تلعب معاهد الأزهر دورا بارزا في تدريس القرآن وعلومه والفقه واللغة العربية، كما تستقطب أساتذة ومعلمين من موريتانيا، وتقدم لطلابها منحا إلى جامعة الأزهر ودول الخليج، ريثما تنتهي الأشغال فى المشروع العملاق وهو جامعة طوبى الإسلامية، والتي هي قيد التنفيذ، كما تنتشر المكتبات الإسلامية في طوبى.
ويحرص الكثير من أولاد أسرة «امباكى امباكى» على طلب العلم في بلاد شنقيط، هذا التوجه العلمي لأبناء هذه الأسرة الدينية يراهن عليه الكثير من المراقبين في حفاظ هذه المدينة على بعدها الإسلامي وعلاقاتها العربية الوطيدة، هذه المدينة التي تتميز عن باقي المدن بأنها «وقف خيري».
هذه هي طوبى التي يقول فيها الشاعر الموريتاني محمد ولد ابن ولد احميده:
أمنت من الخطوب أتيت طوبى
ويآمن من أتى طوبى الخطوبا
فطوبى للذى دفنوه فيها
وللشيخ الخليفة منه طوبى
وعندما يترنم منشد القصائد الشهير «خادم غي» بصوته الرخيم:
أسير مع الأبرار حين أسيرُ
وظن العدى أني هناك أسيرُ
تحسب أنك في سمرقند ورباعيات الخيام يتردد صداها في ذلك الأفق الرحيب.
محمدن ولد عبدالله / شبكة رياح الجنوب