تطرقنا في المقال السابق لعدة قضايا، أهمها المديونية الخارجية والتحذير منها كونها رهن لمستقبل الأجيال والأوطان للأجنبي، كما حذرنا من التعويل على المساعدات والهبات الأجنبية كونها سم في عسل، وتطرقنا لمنجم تازيازت واعتبرناه بمثابة آرمكو الموريتانية من حيث الأهمية الاقتصادية واقترحنا أن تكون المساهمة الموريتانية في الاستغلال من خلال المصانع الموجودة على المنجم، بالنصف إن لم يكن الجانب الموريتاني مساهما رئيسيا وإن كانت الدولة عاجزة عن امتلاك أغلب الأسهم فلتطرح للبيع أمام المواطنين وأمام رأس المال الوطني لتغليب الأسهم الوطنية على الأسهم الأجنبية، وإذا ثبتت خروقات ومخالفات صارخة بعد التحقيق فعلى الدولة أن تلجأ إلى التأميم، كما حدث سابقا مع ميفرما.
واستكمالا للمقال السابق نقول:
يجب أن يتذكر القائم الجديد على أمر البلاد أنه مسؤول عن اليتيم والأرملة والمسكين والمريض والجائع والمنكوب والمظلوم وفوق ذلك هو مسؤول عن النهضة وعن القيم والأخلاق وعن الدين وعن حماية مقدرات البلاد وأن يشرع الأبواب أمام الناس “فمن تأمر على قوم فاحتجب عنهم احتجب الله عنه يوم القيامة” حديث صحيح.
النهضة والهوية:
يجب أن يعرف القائم على أمر البلاد أن نهضة البلاد مرتبطة بنهضة في التعليم بعيدا عن الإملاءات وسياسة لي الأذرع ولا أمل بنجاح المنظومة التعليمية لوطننا ما لم تكن بلغة الهوية دون سواها وفي كل المراحل ما دون الجامعية، وإن لم يحدث ذلك فعلى السيادة والعزة والاستقلال السلام.
لنعترف أن المنظومة التعليمية في بلادنا فاشلة والسبب هو تدخل الممولين وبإيعاز من المستعمر القديم للإبقاء على ثقافته في أرض كانت يوما ترزح تحت سنابك خيله وأحذية جنده.
فشل المنظومة التعليمية في بلادنا يعود في الأساس إلى تبني الازدواجية التي لا مثيل لضررها ولا أدل على ذلك من نتائجالباكلوريا في بلدنا مقارنة مع دول الجوار للعام 2019.
المغرب: 65 في المائة وبإضافة الدورة الاستدراكية تصبح النسبة 78 في المائة.
الجزائر: 54 في المائة للدورة الأولى.
السنغال: 37.56 في المائة.
مالي: 40 في المائة.
موريتانيا: 7.26 في المائة.
لا مستقبل لمنظومة تعليمية نسبة النجاح لديها لا تتعدى 7.26 في المائة في الغالب.
ضرورة إلغاء الازدواجية:
بإلغاء الازدواجية فقط يمكننا تعويض فارق النجاح الواسع بيننا والجيران خلال سنوات قليلة على النحو الآتي:
فبالإمكان تقليص المرحلة الابتدائية إلى 4 سنوات بدلا من 6 سنوات بالتركيز على القراءة والكتابة حصرا والتجربة الفلندية الأنجح في العالم خير شاهد بحيث يستطيع التلميذ مع نهاية السنة الرابعة اكتساب القدرة على تلخيص وتحليل النصوص على أن يكون البرنامج متوافقا مع القيم والأخلاق وصحيح الدين بحيث يكون بمثابة تربية وتعليم.
كما يمكن تقليص المرحلة الإعدادية إلى ثلاث سنوات بدلا من أربع، والمرحلة الثانوية إلى سنتين بدلا من ثلاث.
كما أن استبدال الفرنسية بالإنجليزية كلغة ثانية سيكون بمثابة ضرب عصفورين بحجر.
أولا: كلتاهما أجنبية، غير أن العبرة في المفاضلة بينهما فالانجليزية متقدمة على كافة اللغات الغربية ويكفي أن اللغات الألمانية والإسبانية وحتى البرتغالية متقدمة على الفرنسية، ويقاس ذلك بعدد البحوث العلمية المعتبرة المقدمة باللغة المعنية وبعدد المفردات والمصطلحات العلمية المنتجة بنفس اللغة. فلا تستوي الفرنسية بالإنجليزية قطعا، الفرق بينهما شاسع طويل وعريض. وحتى أن البحوث العلمية المميزة في الجامعات الفرنسية لا تكتب إلا بالإنجليزية في الأساس ويذهب البعض إلى أن الفرنسية تكاد تدخل رحلة السبات العميق، ذلك بأن اللغة الفرنسية لم تعد لغة ولادة.
ثانيا: القطيعة مع شيزوفرانيا، حالة الانفصام، المزمنة في التعليم الوطني والتي تكاد تطيح بأسس الوحدة الوطنية، ذلك بان تحصين الجبهة الداخلية بما يحول دون انكشافها أمام التدخل الأجنبي، هو الحصانة للتماسك الداخلي ولا سبيل لذلك دون العودة للهوية الحضارية والتصالح مع الذات.
عجبا لقوم من الله عليهم بلغة الضاد لغة القرآن ويقدمون عليها ما سواها، فلنا أن نفخر بها من لغة، فهي لغة التنزيل والبيان، وهي لغة الدين الخاتم، لغة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهي لغة أهل الجنة، وهي لغة الأمة الوسط، أمة الإسلام، وهي أجمل وأبلغ وأروع وأنقى وأنبل وأشرف وأسما وأكرم وأكمل اللغات.
حث نبينا الكريم على التحدث بها فقال: (تكلموا لغة العرب ما استطعتم)، ولم يحصرها في عرق فقال: (ألا إنما العربية اللسان).
استهدفت من قبل المستشرقين وحاولوا إحلال اللهجات بديلا عنها وفشلوا، وتوالت محاولات التشكيك فيها وفشلت، وحدهم من تشبعوا بالثقافات الغريبة وأهل العصبيات والأهواء هم من يعادون العربية في بلاد الإسلام. (شر الناس من باع آخرته بدنياه، وشر منه باع آخرته بدنيا غيره) حديث صحيح.
فكيف يجتمع الإيمان في قلب امرء وبغض لغة القرآن ذلك بـأنهما ضدان
لقد تأخر بنا الزمان كثيرا لإزالة الفرنسية من الواجهة كصنم يعبد، ولا معبود إلا الله.
إن الطفل الموريتاني يكاد يجلد لترويضه على تعلم لغة أجنبية غريبة عليه في البيت، غريبة عليه في الشارع، غريبة على مسامعه، غريبة عليه أينما توجه.
يوصى الطفل الياباني بالوقوف من معلمه مسافة ستة أقدام حتى لا يطأ بقدميه ظل معلمه.
فأين نحن يا ترى من هذا المفهوم، فهل تفقدنا المعلم يوما في صحته ومأواه ومعاشه وفي مطالبه.
لا أدل على مكانة التعليم في بلدنا من أنه قلما يعين على التعليم وزير ينتسب لوزارة التعليم أو لسلك التعليم والنتيجة معلومة، فكيف لبلد أن يتقدم والتعليم فيه مركون في زاوية شديدة.
آخر صيحات وزارة التعليم هو حرمان من تجاوز سن الخامسة والعشرين من الالتحاق بالجامعة.
ولا شك أن تنظيم ملتقى وطني لإصلاح المنظومة التعليمية يفرض نفسه بكل لجاجة وإلحاح.
آمال في الطريق:
تجاوز التخلف في مجال الزراعة والصناعة والصحة مرهون بتبني نموذج تنموي يعتمد على استغلال المقدرات الذاتية للبلاد وبربط التعليم بالاحتياجات التنموية وبإشراك المواطنين في عملية التخطيط للمستقبل وبالاستعانة بالخبرة في سوق العمل الإقليمي والدولي وبالاستغلال الأمثل للعلاقات البينية والاستفادة من الثورة الإعلامية والاستثمار في البحث العلمي في إطار رؤية سياسية، اجتماعية، اقتصادية، تراعي التكامل والشراكة.
ولا شك أن إقناع رأس المال الوطني في الانخراط بجدية في بعض الأنشطة والقطاعات المنتجة والمفيدة مسألة غاية في الأولوية علما بأن التوسع في إنشاء الجامعات المتكاملة والمعاهد المهنية المتوسطة ومراكز صقل المهارات والحرف اليدوية ومراكز البحث العلمي يعد من الضرورة في مسيرة التنمية الشاملة.
ولا يغيب عن الأذهان أن من بين التحديات الكبرى التي تواجه البلد في مستقبله ومآله هي الشح في عدد السكان مقارنة بمساحة البلد الشاسعة ولا أدل على ذلك من الفارق الكبير بين سكان البلاد وسكان الدول المجاورة.
المغرب: 35 مليون نسمة.
الجزائر: 45 مليون نسمة.
السنغال: 16 مليون نسمة.
مالي: 15 مليون نسمة.
موريتانيا: من 3.5 مليون نسمة.
إنه فارق يستدعي دق ناقوس الخطر، ذلك بأن الحجم السكاني يعد من العناصر الرئيسية لقوة الدولة، فكلما كان عدد السكان قليلا كلما كانت الدولة أضعف والعكس صحيح.
الحقيقة المرة أن سكان موريتانيا في حالة شبه انقراض، يضاف إلى ذلك خلل صارخ في التوازن الديمغرافي، فهناك مساحات واسعة مترامية الأطراف فارغة كليا من السكان في الشمال والشمال الشرقي وفي الوسط وفي الغرب تقدر مساحتها الكلية بثلاثة أرباع مساحة الدولة.
التصحر هو الآخر يضرب بأطنابه، لقد أثبت العلم علاقة مباشرة بين كثافة الأمطار وكثافة الغطاء النباتي، وبين قلة الأمطار وقلة الغطاء النباتي. لقد استطاعت بعض الدول أن تحول صحاريها إلى غابات، وهذا قابل للتطبيق في بلدنا بالتأكيد. هذان التحديان يحتاجان لحلول بعضها على المدى القريب والمتوسط، وبعضها الآخر على المدى البعيد، ولا جدال في أنها تستحق المناقشة والدراسة والحوار المجتمعي بما يفضي إلى مخارج وحلول.
الإصلاح:
تستطيع البلاد الخروج من عنق الزجاجة بانتهاج سياسات اقتصادية واجتماعية معينة متصالحة مع الذات تؤسس لمستقبل واعد يعيش فيه الشعب الموريتاني مرحلة من الأمل والانسجام تمهد لقفزات نوعية، ذلك بأن الإصلاح الذي يأتي متأخرا خير من إصلاح يوعد به ولا يأتي.
الإصلاح هو الجدار الحائل دون الثورات التي بدأت تطرق كل باب وكلما خبت نيرانها إذا بها تطل برأسها من أبواب أخرى “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون” الآية 117/ هود،.
وإذا كان الإصلاح يعني إصلاحا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فإن البلاد في أمس الحاجة إلى إصلاح يطال القيم والأخلاق، ذلك بأن هناك أزمة قيم وأخلاق فعلا.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
الأجيال الحالية واللاحقة لن ترضى بالقليل فقد وعدت بالكثير إنها تتطلع إلى رؤية البلاد في منزلة تحاكي واقعا افتراضيا مطابقا لما تعيشه مجتمعات ضاربة في التمدن ينعم أهلها بالتعليم الجيد وبالصحة الجيدة وبالعمل المناسب والسكن المناسب وبالأمنوالأمان والخدمات الميسرة. ولن يكتب للإصلاح النجاح إلا إذا كان القائمون عليه من المصلحين، وفي جو ينعم فيه الناس بشروط لا تزال مفقودة، قضاء مستقل، وشفافية مطلقة، وصحافة حرة، ومعارضة معتبرة.
على الرئيس الجديد أن يعلم علم اليقين أن الناس لم ينتخبوه حبا في استبدال رئيس برئيس وإنما استبشارا بعهد جديد يحدث نقلة نوعية تنقل البلاد من مرحلة إلى أخرى أفضل تحكم فيه دولة العدل والعدالة بإنزال الناس منازلهم وإعطاء كل ذي حق حقه وفي الحديث (أمرت أن أنزل الناس منازلهم).
لايعيش الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة لهم إذا جهالهم سادوا
مجلس النواب:
يتوجب على الرئيس الجديد كخطوة أولى من بين خطوات أخرى حل مجلس النواب فلا معنى لمجلس ينتمي في غالبه لعهد سابق ولى، له ماله وعليه ما عليه، حرصا على ألتوازن الأمني والسياسي والاجتماعي للبلاد، بالإتيان ببرلمان يؤمن بالإصلاح ويتبناه ويكون ترجمة لإرادة الشعب في الاختيار الحر.
(يتبع)
بقلم: محمد لحبيب سيدي محمد معزوز، عقيد متقاعد
نواكشوط بتاريخ: 10 صفر 1441 هـــ
الموافق 9 اكتوبر 2019 م
من مواليد مدينة أطار
المؤهلات العلمية:
باكلوريا وطنية
ليسانس حضارة وإعلام ـ المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية
بكالوريوس علوم عسكرية ـ جامعة مؤتة الأردنية
ماجستير علوم عسكرية وإدارية ـ جامعة مؤتة الأردنية
ماجستير علوم إستراتيجية ـ أكاديمية ناصر العسكرية العليا ـ مصر