بقلم الأستاذ الدكتور : محمد الحنفي دهاه
منسق وحدة التصوف بقسم الفلسفة وعلم الإجتماع / كلية الآداب / جامعة انواكشوط العصرية.
عضو مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة
حضرت ضمن كوكبة من المدعوين احتفال السفارة المغربية في نواكشوط بمناسبة الذكرى العشرين لتربع جلالة الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين عليهم من الله الرحمة والرضوان، بدعوة كريمة من سعادة السيد حميد شبار سفير المملكة المغربية بنواكشوط، وقد عكس الحضور المميز والمتنوع لحملة العلم والفكر والأدب والثقافة ومشايخ الطرق الصوفية وممثلي المجتمع المدني وكذا السياسيين المكانة السامية التي يحتلها المغرب ملكا وحكومة وشعبا في قلوب الموريتانيين، كما عكس كذلك متانة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين والتي تعززت بوجود السفير الحالي السيد حميد شبار، ونأمل أن تعزز أكثر وتزداد قوة مع تسلم الرئيس الموريتاني المنتخب محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني لمهامه الدستورية.
وبدا جليا خلال الحفل حرص الموريتانيين والمغاربة على توطيد علاقات الأخوة والصداقة التي تغذيها روافد التاريخ والجغرافيا، وتشدها عرى الدين والنسب والصهار .
ولست في هذه العجالة بصدد الحديث عن تاريخ العلاقات الموريتانية المغربية، فقد خصصت عدة مقالات سابقة للحديث عنها بإسهاب وخاصة فيما يتعلق ببعدها الروحي والمعرفي، وإشعاعها الحضاري الممتد عبر القرون.
ولكني سأستغل هذه المناسبة السعيدة للإشادة بما حققه المغرب خلال العشرين عاما الأخيرة التي تولى فيها مقاليد الأمور جلالة الملك محمد السادس ،معتمدا في ذلك على مجموعة من المشاهدات العارضة .فمقارنة بسيطة بين المغرب الذي درست فيه خلال عقد الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، حيث كان التنقل من المدينة الجامعية يحتاج الى وقت لانتظار حافلة من الحافلات الموكولة للنقل وبين مغرب اليوم الذي يتحرك اترامواي بانسيابيةبين أحيائه وينقل الطلاب إلى المدينة الجامعية في دقائق معدودة وبطريقة أقرب إلى الرحلات السياحية الممتازة.
ولم يقف التطور والبناء في المغرب عند هذا الحد فقد تحول في السنوات الأخيرة إلى ورشة عمل دؤوب شملت كافة المدن بدء بالعاصمة الرباط التي خبرت دروبها وشعابها أيام الدراسة، والآن تغيرت ملامح أحيائها وبناها التحتية ومعالمها الحضارية حتى لم أعد أهتدي وأنا العارف غير الحيران ، وكذلك كان شأن مدينة فاس المحروسة التي شهدت نقلة نوعية في مجال العمران والتحضر، أما الدار البيضاء ومراكش فحدث ولا حرج.
وقد زرت خلال مشاركتي في الدروس الحسنية قبل عامين مدينة العيون عاصمةالأقاليم الجنوبية فألقيت عدة دروس دينية في مساجدها العامرة والتقيت ببعض الإخوة الصحراويين الذين دعوني لشرب الشاي معهم كما ذكرت حضرة الجمعة في الزاوية التجانية بالعيون فشاهدت نهضة حقيقية وتقدما منقطع النظير .
أما عن الحضور المغربي في إفريقيا فلا يحتاج المتأمل كثير عناء للحكم بأنه شهد قفزة نوعية في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والدينية، وسأكتفي بنماذج في المجال الديني من أهمها الإسهام المغربي في المحافظة على الثوابت الدينية للبلدان الإفريقية المتمثلة في ثلاثية المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي، حيث شاركت المملكة معظم الدول الإفريقية تجربتها المثالية في مكافحة الإرهاب والتطرف وجهودها الملموسة في إصلاحات وهيكلة الحقل الديني الهادفة إلى حماية المجتمع من المخاطر المرتبطة بانتشار الافكار الانعزالية والأيديولوجيات المتطرفة التي تشكل أرضية خصبة للإرهاب والتطرف العنيف.
وفي هذا السياق يندرج إنشاء معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات الذي أنشئ بموجب ظهير شريف عام 2014
ليباشر عمله في تأطير الأئمة المرشدين والمرشدات، المغاربة والأجانب، وقد تمكن حتى الآن من تخريج أفواج من الطلبة الأجانب من إفريقيا وأوربا وآسيا استكملو برنامج تكوين يشمل دروسا نظرية وتطبيقية في المواد الشرعية، وعدد من مواد العلوم الإنسانية التي يحتاج إليها الإمام لفهم سياق اشتغاله، كما يشمل زيادة على ما ذكر، تكوينا مهنيا يؤهل الإمام للاحتراف في بلده خارج أوقات التأطير الديني لكسب قوت يومه، سيما في الحالات التي لا تتكفل به فيها الجماعة أو الدولة، وبلغ عدد المتخرجين الأجانب من هذا المعهد 1534 حتى اليوم معظمهم من الدول الإفريقية.
وقد تعضد هذا العطاء وتوسع وازداد وازدان بإنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي أنشأت بموجب ظهير شريف عام 2015.
وقد نص الظهير المنشيئ للمؤسسة على أن من أهم أهدافها:
– صيانة المشترك في العقيدة والمذهب والسلوك الروحي،
– نشر الحكم الشرعي الصحيح،
– إشاعة الفكر الإسلامي المعتدل، وإحياء التراث الثقافي المشترك، وتوطيد العلاقات الروحية.
وفتحت هذه المؤسسة الهامة فور إنشائها فروعا لها في مختلف البلدان الإفريقية، تعمل حسب القوانين المعمول بها في البلدان الحاضنة لها، ونظمت منذ نشأتها عدة أنشطة علمية حول أساليب حماية التدين في إفريقيا من الغلو والتطرف، كما استفاد أعضاء الفروع من عدة دورات تكوينية في المغرب من أهمها الدورة التواصلية للتعرف على النموذج المغربي لتدبير الشأن الديني ومدى إمكانية الاستفادة منه مع مراعاة خصوصيات البلدان وأنظمتها وحاجاتها.
وقد لقي مشروع المؤسسة ترحيبا واسعا من لدن العلماء وشيوخ الطرق الصوفية والمفكرين الإسلاميين في إفريقيا.
ونرجو أن تهتم هذه المؤسسة مستقبلا بتكثيف الجهود في مجال التعليم والتربية بتأطير القائمين على عملية التدريس وإنشاء ما أمكن من المدارس ومساعدة القائم منها.
ولم تقتصر الإصلاحات والإنجازات في الحقل الديني على إنشاء المؤسستين السابقتين رغم أهميتهما بل تجاوزت ذلك إلى إعادة هيكلة عدد من المؤسسات الدينية، وتجديد بعضها وإعادة تنظيم البعض الآخر، حيث تم إحداث كل من مؤسسة محمد السادس لنشر وطباعة المصحف الشريف، والهيئة العلمية الملكية للإفتاء، ومعهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية، والمجلس العلمي المغربي لأوروبا .إضافة إلى إحداث جوائز محمد السادس للقرآن الكريم.
ولم تستثن الإنجازات في الحقل الديني مجال الإعلام الديني لما له من أهمية قصوى في تبليغ الرسالة الإسلامية السمحة التي بعث بها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد رحمة للعالمين، حيث أنشئت إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم والقناة التلفزيونية السادسة للقرآن الكريم، وكان لهما أثرهما البالغ في تنوير الساحة العلمية المحلية والإقليمية من خلال استضافتهما للعلماء الربانيين الذين يدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة ولا يخافون في الله لومة لائم.
هذا بالإضافة الى استمرار وتثبيت سنة الدروس الحسنية التي هي بالفعل مؤتمر جامع لعلماء الأمة ومفكريها من مختلف القارات يجتمعون ويتدارسون أمر الدين ويقدمون دروسا ومحاضرات في مختلف المدن المغربية وأمام جلالة الملك وما يعنيه ذلك من اهتمامه الشديد بشأن العلم والدين وبالعلماء وتقديرهم وفِي ذلك فليتنافس المتنافسون.
نسأل الله جلت قدرته وتعالى عزه وتقدس مجده وكرمه أن يحفظ بلدينا الشقيقين بما حفظ به الذكر الحكيم، وأن يوفق قائديهما لما فيه الخير لشعبيهما، ويسدد خطاهما، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.