نهر النيجر ينساب بهدوء في التربة الطينية، التي تعطي بعض الخصب والنماء لمدينة باماكو، عاصمة مالي التي تنام في حضن ثلاث هضاب ملساء تكسوها الخضرة أغلب أشهر السنة.
هدوء النهر حيث يمارس الصيادون التقليديون حرفتهم منذ الأبد، لا يخفي صخب الحياة في شوارع المدينة، هناك تزدحم السيارات بالدراجات ذات العجلتين، أكثر وسيلة نقل يستخدمها سكان هذه المدينة.
من نواكشوط إلى باماكو ظل الوجود الموريتاني حمال أوجه مختلفة، إذ تتداخل الحدود والقبائل والثقافات بين البلدين، إلا أن للموريتانيين رقعتهم الصغيرة في قلب أكبر وأقدم أسواق باماكو.
يحمل السوق الموريتاني اسم « بغداد »، حوره الماليون بلكنتهم الخاصة ليصبح « بغدادي »، وأصبحت فيما بعد ترمز إلى العرب، حيث تتجاور أحياء بغداد ومصر في قلب الجزء الغني من باماكو، وما إن تطأ قدمك عتبتها، حتى تتفاجأ بأعداد الموريتانيين في هذا المكان، تجار ومشترون، بعضهم أمضى أغلب حياته في باماكو، وفي هذا السوق تحديدا.
أمام أحد الدكاكين، استقلبنا محمد مفتاح الخير، أحد أبناء مدينة النعمة، وصل إلى باماكو في اليوم الذي وصل فيه الرئيس السابق محمد خونة ولد هيدالة إلى سدة الحكم، كما يقول، أي مطلع عام 1980.
تنقل محمدو بين مهن متعددة، إذ مارس النقل إلى مدينة « النوارة »، مدينة يعرفها الموريتانيون جيدا، كما مارس التجارة مع أنه لا يملك دكانا في السوق، ولكنه يزوره كل يوم، فهو يمثل تاريخا بالنسبة إليه: « تعقلنا بهذا المكان، عندما ينشط ننشط »، ويضيف « كل ركن في هذا السوق أعرفه، وكل صاحب دكان، الجمارك كذلك تعرفنا، وتتعاون معنا ».
الجميع هنا يذكرونها بخير، فهي عميدة الجالية الموريتانية في سوق بغدادي، وتنال إحتراما خاصا من الكل بمن فيهم الماليين، فهي تمثل ذاكرة الممكان.
قدمت (السالكة) مع زوجها وساعدته في العمل، قبل أن يقعده المرض، لتتولى هي إدارة الدكان، من ريع الدكان درست كل أولادها في باماكو، لكنها فخورة أكثر بابنتها التي تخرجب طبيبة وقررت العودة إلى الوطن لممارسة مهنتها هناك.
إبان الحرب التي عصفت بمالي عام 2012، أصبحت تحدث بين الفينة والأخرى عمليات سطو على المحلات التجارية للموريتانيين، لكن سكان المنقطة من الماليين، هم من تولى حماية دكاكين الموريتانيين، فيتوقف السوق قليلاً، لكن بعد أيام قليلة، سرعان ما تعود حياة التجار إلى عادتها.
مع غروب الشمس، بدأت المحلات التجارية تغلق أبوابها، وبدأت المآذن في التكبير لصلاة المغرب، في طريق مغادرتنا للسوق، التقينا شابا موريتانيا يغلق باب محله، وفي حديث معه عرفنا أنه من أواخر من قدموا إلى هذا السوق، لكن إخوته -على حد قوله- يعرفون هذا المكان جيدا؛ غادرنا السوق لنترك الشاب ليسلك طريق أسلافه في سوق « بغدادي ».