تقف الفنانة البرتغالية « إيزابيلا فيديرو » وسط بهو معرضها الفني، في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط، تُرحب بالزوار وتشرح لهم لوحاتها وأعمالها الفنية التي تحكي من خلالها قصص من تراث وتاريخ وعادات هذه البلاد.
خلال عقدين من الزمن كانت « إيزابيلا » تحاول رسم موريتانيا، بريشة فنانة مرهفة تكتشف الصحراء للمرة الأولى، وهي القادمة من شبه الجزيرة الإيبيرية، لقد جسدت بأعمالها الفنية الإنسان الموريتاني.
تحول معرضها الصغير إلى وجهة مفضلة للسياح الغربيين وزوار العاصمة نواكشوط، وهو المعارض الذي يقع غير بعيد من المكتب الوطني للسياحة، صدفة غريبة كون ماتقدمه هذه الخمسينية من تعريف بموريتانيا قد يفوق مجهود مرفق عمومي أنشئ لذات الغرض.
قصة الحب
تركت « إيزابيلا » بلدها البرتغال، حيث المناخ شديد البرودة بالمقارنة مع مناخ موريتانيا الصحراوي الجاف، لكن جفاف موريتانيا يخبئ الكثير من الحياة التى لم تخطئها عين الفنانة.
وصلت « إيزابيلا » نواكشوط خريف 2003، واستقر بها المقام في هذه العاصمة التي لا تتقاطع في شيء مع لشبونه، عاصمة البرتغال وموطنها الأصلي، إلا أن روح الفنان المحبة للاستكشاف والتواقة إلى التنوع أذكت فيها شغف البقاء، واستنطاق سحر هذه الصحراء.
تستند « إيزابيلا » إلى تاريخ بلادها الغني باللوحات الفنية، فالفنان « نونو غونسالفيس » الذي عاش في القرن الخامس عشر كان يلقب بـ « فنان البرتغال الأول »، وها هي حفيدته بعد ستة قرون تتجه جنوبا، لتقتفي أثر أجدادها « البحارة » الذين كانوا أول القادمين إلى هذه البلاد.
« إيزابيلا » المتأثرة فنيا بأعمال الفنان الفرنسي تيودور جيريكو (1791–1842)، صاحب اللوحة الشهيرة « الطوافة » التي تُخلد مأساة غرق سفينة « الميدوزا » الفرنسية قبالة الشواطئ الموريتانية عام 1816م، لكن ايزابيل تُصر على لملمة حطام السفينة لتعبر بها إلى بر الأمان، وسلاحها لتحقيق ذلك هو الريشة وعدة الألوان.
« بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة التى شهدتها موريتانيا، وتراجع الأمن في العاصمة تحولت إلى هذا المنزل، فهو يناسب الحالة المادية التى نمر بها الآن »، بهذه الكلمات تبرر إيزابيلا سبب انتقالها لمقرها الجديد نسبيا فهي تقيم فيه منذ سنتين.
تتناثر في مشغل الفنانة البرتغالية لوحات تمثل جميع مناحي الحياة في موريتانيا؛ « هذه هي موريتانيا »، تشير إلى عدة لوحات بالقرب منها، النهر ينساب غير بعيد من رمال ذهبية تتناثر على صدر اللوحة، مُلثم يقطع الفيافي على سفينته الصحراوية، آردين معلق فى الهواء أوتاره تكاد تُلمس بالأيدي.
معرض متنوع
في أواخر 2016، خطرت ببال « إيزابيلا » فكرة تضمن لها الاستمرار في ممارستها للفن الذي تعشقه، ولكن تضمن أيضاً دخلاً مادياً معتبراً منه، فنظمت أول معرض لبيع لوحات فنانين موريتانين، وبالقرب من أعمالهم المعروضة، خصصت مساحة لعرض لوحاتها.
حقق المعرض نجاحا باهراً تجاوز توقعاتها، ولكن الإقبال كان منقطع النظير من ذواقة الفن النادرين في مدينة لا تهتم عادة بهذا النوع من المعارض.
طورت الفكرة من معرض عادي لأعمال الفنانين إلى تظاهرة سوسو – ثقافية، إذ أصبح نشاطها موعدا ثابتا فى أجندة الأوروبيين المقيمين في نواكشوط، ولنخب المدينة التي مازالت عندها بقية اهتمام وشيئ من التحضر.
تحول السبت الأول من كل شهر إلى مناسبة لعرض كل المنتجات الزراعية التي لا تدخل في عملية انتاجها مواد كيمائية أو سماد صناعي، ويشترط في من سيعرض مواد أن تكون عضوية وطبيعية، وهو ما دفع العديد من المنتجين إلى الالتزام بقواعد الفنانة الصارمة، تُعرض هذه المواد في فناء المنزل الخلفي في مكان تطلق عليه إيزابيلا « السوق ».
وغير بعيد من السوق، تصادفك المنسوجات الموريتانية بأنواعها معروضة قرب المدخل، ألوان الملاحف الزاهية المضمخة بصباغة كيهيدي تُزين حوش « زينا آرت » الاسم الذي تطلقه على معرضها.
بإمكانك أن تأخذ استراحة على مقاعد خشبية قدت من جذع شجرة وجدها فنان مقطوعة فحولها إلى مقاعد تضفي لمسة إبداعية على المكان.
في داخل المنزل تتزين الجدران بلوحات للفنان التشكيلي الموريتاني محمد ولد سيدي، وهو فنان أصم، لكن عجزه السمعي لم يمنعه من أن يسمع صوت الابداع الذي يسكنه، يشرح لك بلغة الإشارة كيف استلهم مواضيع أعماله، ويساعده ابنه سيدي ذو الأحد عشر ربيعا، تشجعه إيزابيلا بإيماءة خاطفة تُعطيه ثقة لمواصلة الحديث الصامت.
تتنوع المعروضات فى « زينه ارت »، هنا نجد آلة إعداد الشاي التقليدي الموريتاني مزخرفة بالطراز الولاتي المميز، وبإمكانك أن تقف على لعبة ظامت مزينة وقد اكتست حلة إبداعية تُضيف لها بعدا فنيا نادرا، الحقائب النسائية ومحافظ النقود الجلدية الآدرارية تلفت الانتباه، تستعرض « إيزابيلا » بفرنسية مكسرة كيف استطاعت أن تعقد اتفاقيات مع التعاوينيات النسوية لعرض منتوجاتها وإبرازها لزبناء متلهفين لكل ماهو أصيل.
مصدر التمويل
تدرك « إيزابيلا » أهمية وجود دخل مالي دائم ومعتبر لضمان استمرار أي نشاط ثقافي وفني، لذا اعتمدت على آلية خاصة لضمان استمرارية مشروعها، وهي أن خصصت نسبة 30 بالمائة من قيمة أي عمل فني يباع في « زينه ارت »، لتسيير المعرض.
كما اتفقت مع المنتجين الزراعيين تخصيص نسبة 10 في المائة من حصيلة مبيعاتهم، لصالح المعرض.
وتقول في حديثها مع صحراء ميديا: « بهذا أضمن استمرار المشروع، أسدد الفواتير وأقوم بأعمال الصيانة، وأدفع تكاليف الأمن »، ولكنها تؤكد أنها تعتمد بشكل أكبر على تفهم زبنائها وإيمانهم بأهمية دار العرض في حركية منتوجاتهم.