أزيحت الستارة عن أول مهرجان وطني للمسرح في موريتانيا، فكان ذلك عيداً لكل عشاق المسرح في هذه الصحراء التي أدمن أهلها الشعر، وكان حدثاً استثنائياً للقلة من صناع المسرح الذين آمنوا به كفنٍ قادر على مخاطبة ذائقة المتلقي الموريتاني، وحده من بين هؤلاء « المؤمنين » كان إبراهيم سمير الغائب الحاضر.
كان إبراهيم سمير روح المسرح الجاد في موريتانيا، ومؤطر الشباب البارز فى وزارة الشباب والرياضة، ورئيس فرقة شروق المسرحية، ولكن فارس المسرح الموريتاني ترجل قبل أن يكون شاهداً على ميلاد نجومه، فقد اشتهر بأنه « صائد مواهب » ماهر، يجد متعة كبيرة في متابعة هذه المواهب بشغف أبوي وهي تُصقل وتَكبر.
لقد خطفه الموت في صمت، داخل غرفة معزولة في أحد مستشفيات نواكشوط العمومية، دون أن ينتبه أحد، ودون أن يكتشف أحد أن الغياب هذه المرة كان حقيقياً، وليس فصلا من فصول إحدى مسرحياته.
ولكن القدر ابتسم بسخرية في وجوه من يبكون الرجل، عندما كانت فرقة شروق المسرحية، الفرقة التي أسسها سمير وآمن بها، كانت تُبدع على خشبة المسرح في المهرجان الوطني الأسبوع الماضي، لقد أدرك الجميع حينها أن الرجلَ سيبقى بإبداعاته وبأفكاره، وبمسرحياته.
كل الطرق تؤدي إلى المسرح
وُلد الفنان « إبراهيم سمير اميجن » في مدينة نواكشوط، قبل 43 سنة من الآن، وعاش جزءً من طفولته في مدينة بتلميت، قبل أن يعود إلى العاصمة ليعيد اكتشاف عوالمها بغريزة الفنان الباحث عن كنه الأشياء.
تلقى « سمير » تعليمه الابتدائي في المدرسة رقم 2 بمقاطعة لكصر، فكان معلمه هو أول من اكتشف ميوله الفنية وموهبته في التمثيل، فأشركه في بعض العروض المسرحية بالمدرسة، فخطف الأنظار منذ ذلك الوقت.
فى السنوات اللاحقة من حياته، انخرط الشاب المفعم بالحياة فى العمل الجمعوي الشبابي في العاصمة، حين كانت المراكز الثقافية التابعة للسفارات العربية فى نواكشوط هي المتنفس الثقافي الوحيد لأمثاله من الشباب، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات.
ويتذكر الكاتب الصحفي عبيد اميجين، صديق مقرب للراحل، كيف كانت مكتبات تلك المراكز عنوانا ثابتا في حياة الشاب الذي كان يطالع كلاسيكيات المسرح العالمي، التي كان المركز الثقافي السوري يوفرها لرواده.
كانت الأندية الثقافية في ثمانينات القرن الماضي، ملاذا للفتيان الباحثين عن عوالم الثقافة، لذلك وجد إبراهيم ضالته فى هذه الأندية، فاستحوذت على الحيز الأكبر من وقت الشاب المتحمس، فتارة يكتب نصا مسرحياً، و فى أحايين كثيرة يلعب كل الأدوار الصعبة ذات الشخصية المركبة.
كان يتحرك في أدواره من الميلودراما إلى التراجيديا، مرورا بالكوميديا السوداء المقدمة فى قالب آسر حيث تسخر من واقعنا وتقدمه للمتلقى واخزاً، حينها انتبه النقاد ورواد المسرح إلى ميلاد نجم في سماء مسرح العاصمة يدعى إبراهيم سمير.
ظل يمارس هوايته بوجع المثقف الملتزم بقضايا مجتمعه، إلى أن نجح في مسابقة نظمتها الوظيفة العمومية، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته، أصبح فيها مفتشا للشباب والرياضة، ومسرحيا مؤسسا لفرقة شروق التى أحيت آمال محبي أبو الفنون في موريتانيا.
مسرح السياسة
صعد إبراهيم سمير خشبة المسرح السياسي للمرة الأولى في عام 1997، عندما ظهر اسمه ضمن لائحة مرشحي حزب اتحاد قوى التقدم المعارض للانتخابات البلدية على مستوى بلدية دار النعيم.
بدأ الراحل مساره السياسي وهو في الثانية والعشرين من العمر، ولكن ذلك المسار لم يعمر طويلاً، وظل مساراً متقطعاً، فكان ميله للعمل الثقافي عامل طرد من عوالم السياسة المتقلبة.
في العام 2005 نشط إبراهيم سمير مع « فرسان التغيير » التى خرج رموزها للتو من السجن، وعاد من كان منهم خارج موريتانيا للعمل السياسي، لكن رهانه على السياسة توقف، وقرر اعتزاله إلى الأبد.
علاقة روحية
« المسرح أخلاق وآداب » بهذه الجملة يستحضر المسرحي الشاب « علي ديده » عضو فرقة « الشروق » التي أسسها المرحوم ابراهيم، يستحضر الرجل الذي وقف معه منذ البداية وساعده على صقل موهبته.
يقول ديده إن العلاقة التي تربطهم بالراحل هي « علاقة روحية »، ويضيف أنها « علاقة السينوغرافيا بالخشبة، وعلاقة النصِ بالمؤلِف، وعلاقة المسرحيةِ بالجمهور، وعلاقة عناق المُمثلين في الكواليس، بعد طولِ وفقة الجمهور المُصفقِ لانتهاء العرض ».
كانت المودة هي الناظم الحقيقي لتلك العلاقة بين إبراهيم الإنسان وأعضاء فرقته، ويستطرد المسرحي الشاب المفجوع برحيل أستاذه وصديقه: « علاقتي بإبراهيم الإنسان هي كعلاقته بكل إنسان عرفه.. علاقة مَودة واحترام ».