1
صوت ينبعث من جهة ما من على ضفاف البسفور يغني بشجن لا تخفى تفاصيله على أذن غريب فكل غريب للغريب نسيب، يغني بلهفة من عبر به الحنين إلى آخر مظان الشوق واللهفة يصدح: موطني موطني الجلال والجمال والبهاء والدلال موطني..
يقف شامخا مثل مئذنة عثمانية إختارت أن تتميز ببناء مخروطي يقيها عوادي الزمن لتظل بهيّة لا تنحني لرياح السقوط إلاّ لتعود معتزّة بمن مرّوا من هنا ذات خلافة إسلامية يرقص لها التاريخ جذلاً.
2
لاجئان يتبادلان النظرات في ميدان تقسيم، نظرات تشي بأن لا بديل للوطن، وأن العودة ستحملهم يوما على ذات ألواح ودسر من الفرح، فلا بديل للأوطان ولا مجال لسلب الهوية الثقافية لدى كل لاجيء عربي كما صرح عمدة بلدية إسطنبول في اجتماعه بالصحفيين العرب في قصر خير الدين باشا التونسي على مأدبة كرم سلطاني ألفه كل من دخل في تلك البقاع.
ثمانمائة ألف لاجيء في مدينة اسطنبول وحدها، وثلاث ملايين ونصف موزعة في تركيا عموما، ما يقارب ضعف سكان إحدى الدول أو مثلها تلوذ بتقسيم فتحتضنها لياليه الساهرة من غفوة طالت بأوطانهم.
لم يكن السلطان سليم الثالث الذي بنى قلعته مطلع القرن 19 بجوار ميدان تقسيم يعلم أنها ستكون إطلالة مبهرة على أنّات الهاربين من أوطانهم وأن التاريخ سيكتب ثورة جياع موجعة سطّرتها أنظمة أسهبت الطعن في الخاصرة العربية.
3
الصحفيون العرب بدعوة من عمدة بلدية إسطنبول مسعود أوصال يتجمعون في ضيافة سلطانية يطرحون أسئلتهم من داخل قصور السلاطين من عمق ضارب في العزة والأنفة والشموخ، فأي سؤال يمكن أن يكون أجمل من سؤال تطرحه وأنت تتجول في قصر فاتح القسطنطينية محمد الفاتح الذي قال بإصرار مخاطبا ود مدينة اسطنبول بعد وصوله لمشارفها “يا إسطنبول؛ إما آخذك أنا وإما تأخذيني أنت، ولا مجال للفراق بيننا »…!
وكأن الصحفيين سقطوا في ثقب زمني يستلهم التاريخ ويشحذ الهمم، فليس غريبا عليهم أن يكونوا هنا هم أيضا يحملون دول وممالك إسلامية فاطميون، وأندلسيون، ومرابطون، هم أيضا يحملون خلافات ضجت بها الأصقاع وسقطت بعد أن اغتالها الضعف والهنة، واستبدت بها الفرقة وشاع فيها الظلم.
4
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ينتقل بخفة في القاعة التي جمعته مع الصحفيين العرب كما ينتقل بخفة بين التصريحات يتكلم عن نفسه وكأنه هو تركيا مشيرا إلى صدره باعتزاز، يزمجر فتضج القاعة: تركيا لن تتخلى عن فلسطين وستقف دائما إلى جانبها، القضية الفلسطينية قضيتنا جميعا من خدمها فقد خدم الإسلام ومن تخاذل فلن يرحمه التاريخ أبدا.
يعلن تفاجئه من تقاعس دول عربية عن مؤتمر القدس الذي نُظّم في تركيا، فيسرّ صحفي لآخر نحن تفاجئنا منذ سنوات كثيرة.. منذ الخذلان الأول ..!
وحمدت الله كثيرا أنني كموريتانية أستطيع أن أرفع رأسي بقطع علاقة بلدي مع الصهاينة، وأن نظامنا الحالي أعفاني من ازدواجية مقيته لا تبرير لها تتقلدها بعض الشعوب.
5
هنا يسقط حاجز اللغة فتتماهى الجنسيات ولا تكاد تبين، منال اكين التركية تتحدث بعربية فصيحة فترد عليها أفنان التونسية برطانة تركية لم تعرف إلاّ أزقة اسطنبول، سيد المصري يُستدعى ليترجم لرئيسة منتدى القدس التركية ما يلقيه السيد ياسين اكتاي كبير مستشاري الرئيس أردوغان بعربية صقيلة أصيلة متشبعة بمصطلحات علمية وأكاديمية مبهرة.
ومتى ما سقط حاجز اللغة واطمأنت القلوب وتآلفت، عندها فقط تتضح المعالم ويتحدد المُشترك .
6
خمسون صحفيا عربيا تنقلوا بين معالم اسطنبول وبين تصريحات كبار سياسيي تركيا، كانت أسئلتهم تقارب وجهات النظر، تنفي الشكوك، وتمحي الخوف الذي يزرعونه من يدسون السم في العسل، كل سؤال كان يبني جسرا ويدحض شائعة، كل سؤال كان يردم هوّة سحقية بين الأتراك والعرب ويرجع أواصر المحبة والتعاضد.
7
خبز السميت الساخن والشاي التركي يحفزانك على السكن في اسطنبول يحملان طعم الإبهار، شيء وإن حاولت أن تتذوقه في غير اسطنبول فلن يكون له طعم أبدا، مثل كل الأشياء التي لو خرجت من مكانها تفقد معناها وتصبح غريبة حتى على نفسها..! عليك أن تأخذ قطعة سميت ورشفة من الشاي في وقت واحد لتسافر إلى عالم من الدهشة.
ثم إن القهوة التركية أخت الوقت وتحتسى على مهل، وليعذرنا محمود درويش.