لم يعد مستغربا لدى السلطات التونسية في مطار قرطاج الدولي، أن يصطف موريتانيون في قاعات المطار من دون أن يكونوا مسافرين؛ إنهم « مرسلو الأدوية » الذين تعد زحمتهم دليلاً على اقتراب الرحلة المتوجهة نحو نواكشوط.
يعرف « مرسلو الأدوية » في مطار قرطاج الدولي بسيماهم التي تميزهم عن غيرهم، رزم يحملونها في أيديهم، وسعيهم الحثيث نحو التحدث مع مسافرين لا يعرفونهم أصلاً، إنهم يحجزون بأحاديثهم مقاعد في الرحلة لحبات الباراسيتامول وعلب المضادات الحيوية.
تتنوع أساليب البحث عن الشخص الذي باستطاعته أن يحمل رزمة الدواء، والمهم ان تفلح خلال ساعتين على الأكثر في المهمة، وتلعب العلاقات الشخصية وكاريزما المرسل دورا كبيرا في إقناع المسافر بحمل الرسالة.
المرضى المسافرون
سيدي محمد ولد أحمد، استقر قبل سنوات في تونس وامتهن تأجير وسمسرة المساكن في أحياء « التحرير » و « النصر » للمرضى الموريتانيين وذويهم، فمن المعلوم أن أغلب المسافرين من موريتانيا إلى تونس مرضى يبحثون عن شفاء لم يجدوه في مستشفيات وعيادات نواكشوط.
يرى سيدي محمد أن رحلة البحث تبدأ من الأحياء التي يقطنها المرضى الموريتانيين في تونس، وذلك عبر السؤال عن المرضى العائدين إلى البلاد أو أقارب المتوفين.
وحين يحصل على قائمة الأسماء يدخل في سباق مع منافسيه، وفي بعض المرات يخبره أحدهم بأنه مستعد لحمل الرسالة لكن عليه أن يسلمها له في المطار، وإذا ساعده الحظ يدله أحد الطلبة على قريب مسافر.
وحين يعز عليه العثور على الشخص يذهب إلى المطار بساعات قبل موعد إقلاع الطائرة، وفي أروقة المطار تبدأ رحلة صيد طويلة وقاسية، تكون المنافسة فيها شرسة والخيارات فيها محدودة جداً.
الفريسة السهلة
ولد أحمد كان يتحدث معي وهو يحاول ألا ينشغل عن ترقب وصول مسافر ضرب له موعدا قرب كشك شركة « أورانج » فى أحد أروقة مطار قرطاج، يقول: « منذ فترة وأنا أمارس هذه المهنة، بالإضافة إلى عملى الرسمي فى تأجير شقق للموريتانين، إذ تربطني علاقات جيدة مع أصحاب صيدليات فى نواكشوط، أشتري لهم أنواعاً من الأدوية أغلبها مهدئات ».
يقضي ولد أحمد عدة ساعات في انتظار أن يقبل أحد المسافرين حمل رزمته، ويشرح لنا كيف تتم هذه العملية: « أستهدف فى الأساس الأشخاص الذين تظهر عليهم حالة ارتباك ودهشة من يسافر لأول مرة، إذ عادة ما تكون لدى مثل هؤلاء الاستعداد الفطري لمساعدة الآخرين، خاصة أن المهمة سهلة ولا تكلف الكثير ».
ويوضح ولد أحمد أن « مما يزيد من حماس المسافر لتحمل مسؤولية نقل الدواء هو علمه بأن هنالك من ينتظره فى مطار أم التونسي الدولي فى نواكشوط لتسلم الطرد ».
يضطر بعض مرسلي الأدوية إلى دفع مبالغ رمزية للمسافر مقابل حمل رزمة الدواء، لا تتعدى هذه المبالغ 20 دولاراً، وغالباً من يقبلون هذه الإكراميات يكونون شبانا أو طلبة يصرفونها في اقتناء هدايا قبل صعود الطائرة.
أكثر من مجرد تجارة
تعرف المستهلك الموريتاني على الدواء التونسي متأخرا بشكل نسبي، ذلك ما يقوله محفوظ، وهو طالب في جامعة المنار بتونس.
يقول لـ « صحراء ميديا » إنه « قبل سنوات قليلة لم يكن يطلب مني أي قريب أو صديق شراء وصفة دواء من تونس، إلا أن الأمر اختلف مؤخراً وأصبحت أرسل كل أسبوع رزمة أدوية إلى أقاربي وأصدقائي في نواكشوط ».
ويضيف محفوظ أن الأمر لا يتوقف عنده وحده: « أغلب الطلاب فى تونس العاصمة يستغلون أوقات فراغهم لشراء أدوية وإرسالها إلى نواكشوط »، ويشير إلى أن الأمر تحول إلى مصدر دخل للعديد من الطلاب، ويقول في هذا السياق: « بعض الطلاب استطاعوا تغيير ظروف حياتهم إلى الأفضل بسبب هذا النشاط التجاري الذي يمارسونه في أوقات فراغهم ».
أدوية مطلوبة
لا تلقى كل الأدوية المتوفرة فى تونس نفس الإقبال من طرف صيدليات نواكشوط، إذ يرى المسافر مولاي، وهو صاحب صيدلية فى وسط العاصمة نواكشوط، يرى أن « أغلب الأدوية التى تأتي من تونس، هي تلك التي تعالج الحمى والصداع ».
ويضيف مولاي: « نستورد كذلك من تونس، ولكن بكميات قليلة، أدوية للأمراض المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري والأعصاب وغيرها ».
وأثناء تجوال « صحراء ميديا » بين مصدري الأدوية إلى موريتانيا، وقفنا على دواء يمثل قبلة لجميع المشتغلين في المجال، بسبب ارتفاع الطلب عليه في نواكشوط وانخفاض سعره في السوق التونسي؛ إذ يباع في تونس بما قيمته 3 آلاف أوقية قديمة ويباع في نواكشوط بسعر يزيد على 12 ألف أوقية قديمة، أي أن سعره يتضاعف أربع مرات بين المدينتين.
يقول الطالب: « في الفترة الأخيرة زاد الطلب على دواء (رودوجيل)، وهو علاج لبعض أمراض الفم غالباً ما ينصح به أطباء الأسنان، نفس الشيء بالنسبة لدواء اسمه (وزامس)، وهو مضاد حيوي يوصف لمن خضعوا لعمليات جراحية ».
رحلتي السبت والأربعاء
يعد السبت والأربعاء هما اليومان اللذان يمثلان ذروة النشاط الأسبوعي لمرسلي الأدوية؛ ففي هذين اليومين تنطلق رحلات الموريتانية للطيران، التي يفضل سيدي وغيره من تجار الأدوية أن تسافر على متنها رزم أدويتهم المشحونة إلى الوطن.
ولكن عدداً من أصحاب الخبرة في إرسال الأدوية يتجهون نحو الخطوط الجوية التونسية، إنهم يفضلونها بسبب علاقات خاصة نسجوها مع المشرفين على تنظيم رحلاتها إلى نواكشوط، علاقات تمنحهم بعض الامتيازات الخاصة.
يؤكد سيدي ولد أحمد أن إرسال الأدوية لا ينطوي على مخاطر كبيرة، ويضيف: « هناك تسهيلات كبيرة نحصل عليها بفعل العلاقات الشخصية، وبفضل أشياء أخرى تحدث من تحت الطاولة بعيدا عن الأعين، كما أن الأدوية التي نرسل في أغلب الأحيان تدس في أكياس صغيرة لا تلفت الانتباه ».
يشرح سيدي هذه العملية التي تعود عليها: « أوزع الأدوية في أكياس صغيرة وتوزيعها على المسافرين الذين أتفق معهم سلفا لكي يظهر الوضع وكأن الأدوية للإستعمال الشخصي، خاصة ان السلطات فى مطاري الذهاب والوصول تدرك أن أغلب المسافرين هم مرضى كانوا يتعالجون فى المستشفيات التونسية ».
جاء المسافر الذي ضرب موعداً مع سيدي، اسلتم منه الرزمة ومنحه سيدي مقابل ذلك ابتسامة امتنان وودعه، ولكنه قبل أن يغادر سألناه عن سبب قبوله حمل رزمة الدواء، فرد: « أنا أقدم خدمة وأكسب ثوابا لأن الدواء الذي أحمله ينتظره مريض هناك في نواكشوط هو بأمس الحاجة إليه ».
يتدخل سيدي ليقول: « لا يتعرض المسافر الذي يحمل كيس دواء للمضايقة فى مطار نواكشوط، نحن في وطننا ونتعامل مع سلطات بلدنا »، قبل أن يستدرك: « بالفعل، الوضع تغير مؤخراً ولم يعد بتلك السلاسة بعد حادثة علب الدواء الفارغة القادمة من تونس »، في إشارة إلى واقعة تداولها الموريتانيون على مواقع التواصل الاجتماعي.
ودعنا القاضي، وصعد على متن رحلة الخطوط الجوية الموريتانية التي كانت تحمل مرضى كانوا محظوظين بالشفاء، وجنازة ميت، وحبات باراسيتامول تحمل الأمل بتخفيف ألم عدد من المرضى لم يقرروا بعد السفر إلى الخارج.