في مثل هذا اليوم الحادي عشر فبراير من السنة الماضية رحل عنا الأخ بأخوته والأب بتربيته والأم بحنانه، الصحفي البارع أحد قامات الإعلام الموريتاني وركيزة من ركائزه المؤسسة، مدير البرامج في إذاعة موريتانيا في الستينات والسبعينات، مدير عام بالوكالة في حالة غياب الفرنسي الذي كان يشغل هذا المنصب في ذلك الوقت المدير المؤسس لجريدة الشعب، وأول مدير عام للتلفزة الوطنية أيام انفصالها عن الإذاعة الأم وها هو الآن وفي نفس اليوم من هذه السنة الجارية الصحفي والشاعر الكبير كابر هاشم يرحل –لا احساب على الله- إنها سنة الحياة والطريق معبدة وسالكة ونحن نقول لله ما أخذ وله ما بقى وإنا لله وإنا إليه راجعون نحسب الأجر عند الله – (كل نفس ذائقة الموت وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين.
لكن العبرة لنا نحن في هاتين القامتين في خلقهما وحملهما لمشعل الحرية والدفاع عن الوطن وعن الكلمة الحرة بعيدا من التملق والتصفيق والنفاق ولكي لا يكون الكلام فضفاضا أصدر للقارئ بعض الأمثلة التي عرفتها من أخي محمد يحظيه بن العاقب: هاهو في عقده الثالث يكتب لفخامة الرئيس آنذاك الأستاذ المختار داداه رسالة مفادها أنه يطلب منه أن يسلم عليه بيده بدلا من جعله يده على كتفه ويكون رد الرئيس في أول لقاء له بأخي عند المطار الدولي للجمهورية الإسلامية الموريتانية الأولى والتي أصحبت ملامحها تندثر بغياب ذلك العلم الوطني والنشيد الوطني والعملة الوطنية بعد ستة عقود من الاستقلال.
ورجوعا إلى الحادثة أقول أنه تصرف من شاب متحرر يطمح للحرية والاستقلالية وردة فعل رجل قائد عظيم حكيم بتجربته، متواضع في سلوكه إنه أب هذه الأمة وابنها البار فخامة الرئيس.
وفي حادثة أخرى والرئيس يتفقد أحوال المواطنين في الداخل وغير بعيد من مدينة بوڭى التاريخية وفي ليلة من الليالي وبعد سهرة استرخاء وطرب مع الفنانة الكبيرة سكت منت همد فال وفي الساعة صفر ليلا ينام الرئيس في خيمته وتحف به سلطات الأمن وفي نفس الوقت يأمر أخي أخاه وصديقه المرحوم محمد ولد السالك المكلف بالسمعيات البصرية حينها، يأمره بطي الأجهزة التصويرية لأنها ملك للدولة ومن المفروض أن تنام كما نام فخامته بعيدا من النفاق للسيدة الأولى مريم داداه التي كانت تطلب أن تأخذ صورة تذكارية لها والفنانة سكت تعلمها على آلة آردين ويأتي أخي ليجلس ليستمع إلى نغمات آردين فترد عليه السيدة الأولى بأنه منعها من التصوير فيرد عليها قائلا – أبيظ أوذن يان منك أنت-
رحم الله الفقيد وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أصدرت هذين المثالين من بين أخر كشهادة حية على علو ذلك الجيل الراحل والمؤسس للجمهورية الأولى والمعروفة بشهامة أهلها وعلوهم ونزاهتهم وتضحيتهم من أجل موريتانيا أولا وأخيرا وتجسيدا لذلك الشعار الذي حملناه على أنفسنا : شرف-إخاء-عدالة.
والسؤال المطروح أين نحن من هذا الشعار؟
وأخيرا أتساءل أين الإذاعة الأم من هاتين القامتين؟ أين نقابة الصحفيين؟ أين الجريدة الوطنية من أول مؤسس لها؟ أين التلفزة الوطنية من أول مدير عام لها؟ أين وزارة الإعلام؟ أين وأين؟…
أين تلك الدولة الجامعة، الرافعة والمتفقدة لجميع أبنائها والمعاقبة لمن يستحق العقاب حسب المعايير الموضوعية والمكافئة لمن يستحق المكافئة أم أن المشكلة أصبحت في المعايير والضوابط التي يتم من خلالها التنكيل والتوبيخ والتشجيع والتكريم في الحياة والتأبين بعد الممات، تغيرت كل الموازين الشنقيطية التي ورثناها من أجدادنا وعليها تربينا وتبدلت بالمعايير المادية والنفاق والتصفيق والتملق والولاء اللامشروط للحاكم وزمرته ولهذا لم يكرم أخي في حياته من سائر الأحكام العسكرية وطبعا لم يؤبن بعد وفاته.
أم أن التكريم والتأبين ظلا حكرا على كبار العسكر وأبنائهم ولهم الحق في ذلك والتقدير ولا غضاض في الأمر لكن أن يظل حكرا لهم وعليهم فالمشكلة في هذه الجزئية وينسى أو يتناسى أولئك الذين دافعوا عن الوطن هم الآخرون بأقلامهم ورصاصهم فهذا ليس من العدالة في شيء. أم أن أخي لا يستحق التكريم ولا التأبين “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” اسألوا كل من يعرفه وخدم معه اسألوا قامات الصحافة الموجودة ووزراء الإعلام أمثال أحمد ولد سيدي باب، أبناء جدو: خطري، الطالب وحدمين، أبناء عبدي: يحي والداه وهم ولله الحمد قائمون وعلى دربه سائرون، اسألوا عمال التلفزة وهي آخر محطة يسيرها في الإعلام ولعلهم يجيبونكم بأنهم وفي آخر اجتماع له بهم وبعد تسعة أشهر فقط من التسيير المعقلن جمع لهم من عائدات الإشهار في التلفزة الوطنية ما زاد به رواتبهم ثلاث مرات ولأول وآخر مرة -حسب سلطته التقديرية- والاستشهاد لعمال التلفزة وليس من عندي. اسألوا أولئك الذين يرصدون التاريخ ويستحيون أن يذكروا اسمه حسدا من عندهم حتى يسألوا عنه فيجيبون ورغم أنفهم بأنه كان من مؤسسي الإذاعة الأم (تحصيل الحاصل).
أما بالنسبة لنا نحن أسرة الفقيد وقبيلته وعشيرته فكفانا تكريما وتأبينا ما تركه لنا من تقدير ومجد لدى كل من عرفه من قريب أو بعيد والحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
نعم رحلت عنا وبلا رجعة ومفارقتك تركت الكثير في أنفسنا حقا والجرح أعمق لكنك رفعت رؤوسنا ما زلت حيا وتركتها مرفوعة، شامخة في السماء مرفوعة بالمجد والتقدير والوفاء لمن عرفت وعاشرت من قريب أو بعيد ومن الوفاء لك أن أذكر في هذا المقام أخاك وصديقك الوفي محمد الأمين بن أحمد وزيرك في التسعينات و مديرك التجاري الأسبق في السبعينات وأنت تؤسس جريدة الشعب وللأمانة فهو من عين أخي مديرا للتلفزة يومها كان مراسلا لوكالة الأنباء في كيهيدي اختيارا وارتباطا معتزلا لمفاصل الدولة بعد الإطاحة بالرئيس المختار بن داداه وابتعادا من العسكر.
هكذا يكون الوفاء للعلاقات، فرغم تباين المواقف تارة، ظلت علاقة الرجلين حميمة ففي التسعينات (90) يومها كان المرحوم محمد الامين بن أحمد وزيرا ومديرا لحملة ولد الطايع وأخي معارضا ومسؤول الإعلام لحملة ولد داداه ورغم التباين في المواقف والرأي ظلت علاقة الرجلين متجذرة في الأعماق إلى أن رحلا إلى مثواهما الأخير رحم الله الجميع وأدخلهم فسيح جناته. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبما أن الأمور بخواتمها فأشهد الله وهو أكبر الشاهدين بأن آخر صورة أرى فيها أخي خارج المستشفى وبقيت في ذهني وهو واقف يتصدق عند مسجد ولد امبوج في تفرغ زينه على أولئك الجالسين عند الباب والله لا يضيع أجر من أحسن عملا والحسنة بعشرة أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء والله واسع عليم، وللأمانة وأنا أحرر الصفحات الأخيرة بلغني بأنه تم تأبين الأخ كابر هاشم والشكر موصول لكل أولئك الذي ساهموا في ذلك العمل الجبار ويستحق الأكثر…
اسمحوا لي أن أمر مر الكرام على جزء يسير من مسيرة أخي التجارية أو “التيفي” كما كان يحلو له أن يسم نفسه في ذلك الوقت تواضعا منه. ففي سنة 77 من القرن الماضي خرج أخي مـــــن الوظيفــــــــة العموميــــــــــة مؤقــــــــتا ‘’en disponiblité’’ لمدة سنتين قابلة للتجديد مرة واحدة وهو ما جعل ممارسته للتجارة تقتصر على هذه الفترة وكانت البداية مع ابن عمه ورجل الأعمال والغني عن التعريف والثري في ذلك الوقت يوم كان الأثرياء أقلاء يعدون على أصابع اليد. هكذا بدأ أخي مسيرته التجارية وهو مدير عام لشركة ‘’SOGEA’’ والمملوكة من طرف رجل الأعمال حاب لكن تلك المزاوجة لم تطل كثيرا حتى أصبحت الشركة مملوكة لأخي وهو ما جعله يضيف لها حرفا جديدا وذو دلالة كبيرة وهو حرف ‘’C’’ بالفرنسية وأصبحت الشركة العامة للتجارة والزراعة ‘’SOGECA’’ بفعل تنازل المرحوم لحاب عن منزله الأول في تفرغ زينه والواقع أمام سفارة الروس حاليا والمسكون من طرف مالكه الأخير حاب أطال الله في عمره.
وفي ظرف وجيز ونتيجة لتدبيره وعقله وذكائه وثقافته الواسعة امتلأ الرجل مالا دون أن يؤثر ذلك على سلوكه وبساطته وعلوه مالكا لنقوده لا مالكة له. وعن ثرائه أستشهد بفاتورة تبلغ أربعين مليون أوقية قديمة (40 Millions MRO) ونحن في السبعينات من القرن الماضي وجدتها في حقيبته ونحن نحضر أحد أسفارنا إلى فرنسا من أجل علاج جلطة دموية أعاذني الله وإياكم أصابته في آخر زمنه الشيء الذي جعله يفقد تلك الفصاحة و السلاقة في الكلام والنباهة والتي عرف بها حين كان يصف الطائرة وهي تريد الهبوط على المطار الدولي القديم حاملة لأحد زعماء العالم وهم كثر ممن زاروا البلاد في تلك الحقبة من التاريخ وأسماء الشوارع شاهدة على ذلك، والحق يعلو ولا يعلى عليه وإنا على ذلك من الشاهدين.
وللتأكد من الأمر ارجعوا إلى ارشيف الإذاعة إن لم يكن ضاع كما ضاع ارشيف التلفزة التي أرسلت لنا أيام وفاته تريد صورة تذكارية لأول مدير عام لها.
أما عن تصرف أخي في ماله فحدث ولا حرج ألم يكن هو من استقبل العائدين الموريتانيين سنة 1989-1990 في أحداث السينغال الأليمة في منزله سابقا والموجود قرب والي كيهيدي يومها، وعلى العموم اسألوا سكان كوركل من رعاة غنم وبقر وإبل وملاكها في تلك الفترة ولعلهم يجيبون، وقد أنفق، وأعطى عطاء من لا يخش الفقر للقوي والضعيف والغني والفقير حتى صار بلا مال لكنه غني عن الناس كلهم والغنى عن الشيء لا به. رحل وهو متصدقا، واصلا لأرحامه زائرا وموفيا لأسلافه هكذا كانت نهاية شقيقي رحمه الله وأدخله فسيح جناته.
وكما بدأت أعيد طرح السؤال والجواب عليه بمليون أوقية جديدة (1.000.000 MRU) والسؤال يقول من منا يستطيع في “زمن الديمقراطية” و”التعددية” و”الحرية” و”الانعتاق” أن يجرأ على أن يطلب من “فخامته” ألا يضع يده على كتفه كما فعل أخي في السبعينات من القرن الماضي وفي الحزب الواحد.
أم أن السؤال سيظل مطروحا لأن الحاكم لا يسلم بيده على زمرته فما بالك بوضع اليد على الكتف.
أما بالنسبة لي فأنا لست منطويا تحت راية أي حزب لا مواليا ولا معارضا وبالتالي فأنا حر مستقل في مواقفي ومتأس ومتأثر حقا بشقيقي وعلى دربه أسير وهو ما جعلني أكتب مرغما لا بطلا ولأول مرة وبعد سنة كاملة من التحري والصبر لعل نقابة الصحفيين أو وزارة الإعلام أو الدولة تتذكر أخي وتقوم بتأبينه لكنها عندما لم تفعل رأيت من واجبي بل من أبسط حقوق أخي علي رد بعض الجميل الذي أداه لي ومنذ صغري أن أكتب عنه قليلا والقليل من القليل كثير ولولا الجهل وقلة المعرفة لألفت عليه الكثير والكثير وهو من يستحق.
والله ولي التوفيق وعليه توكلنا وإليه ننيب.
الإمضاء الشيخ ولد العاقب
46995131