مضت سبعة أشهر منذ أن نُطق بالحكم على السيناتور السابق محمد ولد غده في محكمة روصو، جنوبي موريتانيا، ولكن ملفه يعود من جديد لنفس المحكمة، في قضية وُصفت بالاستثنائية في كافة إجراءاتها وأشكالها، إذ أنها المرة الأولى التي يمثل فيها عسكري أمام محكمة بتهمة « انتهاك خصوصية » مدني.
لم تكن هذه المحاكمة هي الأكثر إثارة في تاريخ قاعة محكمة روصو، تلك المدينة الهادئة في حضن نهر السنغال، والتي شهد تاريخها الكثير من المحاكمات المثيرة، والتي تركت بصمتها في التاريخ السياسي والنضالي لموريتانيا، محاكمات جعلت من روصو « عاصمة المحاكمات ».
يقول المتابعون للمسار القضائي في مدينة روصو، إن قاعة محكمتها لم تخل الأحكام الصادرة عنها، منذ تشييدها كمحكمة مدنية، من تأثير ملحوظ على ما يجري من أحداث في العاصمة نواكشوط.
في العام 1980 كانت القاعة رغم صغرها مشرعة الأبواب أمام مئات المواطنين لحضور أول محاكمة تُمثل السلطة التنفيذية طرفها المدني في قضية لم يألفها القضاء الموريتاني بعد.
لقد غصت قاعة المحكمة آنذاك بالمساندين لقادة « حركة الحر » الحقوقية، وذلك للتعبير عن دعم هؤلاء الحقوقيين الشباب المتهمين بقائمة من التهم أهمها: « زعزعة البلاد وتهديد السلم الاجتماعي ».
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عادت محكمة روصو إلى الواجهة، في محاكمة شكلت الحدث الأكثر لدى سكان المدينة، حين كان ابن المدينة والناشط السياسي المعارض والإداري البارز سيدي افال يواجه تهمة « الفساد »، وذلك بعد نشوب خلاف سياسي كاد ينتهي بأزمة داخلية في المدينة، لقد كان صراعاً سياسياً بلبوس قضائي.
طويت صفحة محاكمة « سيدي افال »، وعادت الحياة إلى طبيعتها في المدينة التي تشكل أهم معبر بين موريتانيا والسنغال، بل وحتى أنها تعد نافذة مهمة بين موريتانيا وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء.
ولكن المدينة بحكم موقعها الاستراتيجي، شكلت معبراً مهماً للعديد من الشخصيات السياسية والحقوقية وحتى العسكرية، ولعل من أشهر عمليات العبور التي شهدتها ما جرى في شهر أكتوبر من عام 2004، عندما حاول صالح ولد حننا، القيادي البارز آنذاك في تنظيم « فرسان التغيير »، أن يمر منها متوجهاً إلى مخبئه الأفريقي، ولكن الأمن قبض عليه في أحد أحياء المدينة.
تحولت قضية « فرسان التغيير » إلى قضية رأي عام، وخلال محاكمتهم تم إيداع محاميهم السجن المدني بروصو، ووجهت إليه تهم بـ « التجاوز والتطاول على هيبة المحكمة »، لم يكن المحامي حينها سوى الأستاذ سيدي محمد ولد محم، الرئيس الحالي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم.
كانت تلك هي اللحظات الأخيرة من حكم الرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد الطايع، سرعان ما انتهت بانقلاب فجر الثالث من أغسطس عام 2005، وفي حين كان ضيوف القصر الرمادي الجدد يصنعون الحدث في نواكشوط، كان محمد جميل منصور، القيادي حينها في حزب الملتقى الديمقراطي « حمد »، ضيفاً على مفوضية الشرطة في مدينة روصو، لقد جرى توقيف الرجل بعيد الانقلاب بدقائق معدودة وهو يعبر نهر السنغال عائداً إلى البلاد بعد أشهر قضاها في منفاه الأوروبي.
في عام 2014 عادت محكمة المدينة إلى الواجهة من جديد، ولكن هذه المرة في محاكمة تشبه في كثير من تفاصيلها محاكمة قادة « حركة الحر » قبل أكثر من 34 عاماً، لقد كان بطل هذه المحاكمة زعيم مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية « إيرا » بيرام ولد الداه ولد اعبيدي.
ولد اعبيدي الخارج للتو من انتخابات رئاسية حقق فيها الرتبة الثانية، ولو بفارق تجاوز الثمانين في المائة، كان ينوي العبور نحو السنغال مستعداً لجولة أوروبية ترويجية لخطابه الحقوقي، قبل العبور قرر التوقف لاستقبال قافلة حقوقية مناهضة لما يسمى « العبودية العقارية »، لم تكن القافلة مرخصة فتم توقيف ولد اعبيدي وبعض مرافقيه، وعرض على محاكمة مثيرة في نفس القاعة التي وقف فيها قادة « حركة الحر ».