من ضمن ما أعلنت عنه السلطات الموريتانية في خطوتها لتحديد قيمة العملة، هو تغيير شكلها وحذف الصفر منها، لاعتبارات ساقتها خلال الأيام ما بعد ذكرى الاستقلال الأخيرة.
اليوم يجد الموريتانيون أنفسهم بعد أسابيع، أمام طبعة جديدة من عملتهم، تختلف عن معظم نسخها السابقة في الشكل وفي الترقيم، سيفتقدون كما ستفتقد العملة الجديدة صورة “الشيخ الوقور” الذي لازمهم في أوراق الأوقية على مدى عقود من الزمن.
الشيخ الذي ظهر في الأوقية أول مرة دون أن تُـعرف هويته، يختفي منها اليوم دون أن يعرف السبب، لقد دخل جيوب الموريتانيين بصمت وغادرها بصمت.
الشيخ الغامض
“الشيخ الوقور” هي تلك الصورة المائية المخبأة وسط الفئات الورقية من العملة الموريتانية منذ إنشائها عام 1973 من القرن الماضي، على مدى أربعة وأربعين عاما، ظل ذلك الشيخ رمزا من رموز العملة، ومفتاحا من مفاتيح أمانها دون أن يعرف الموريتانيون له أصلاً ولا فصلاً.
حيكت حول الصورة قصص عديدة، غالبيتها كانت محض خيال، أراد من خلالها الموريتانيون تفسيرا لأسباب وجود صورة “الشيخ الوقور” في عملة كانت الشغل الشاغل لهم ما بعد الاستقلال، بوصفها رمزا من رموز السيادة، والانفصال عن عملة الفرنك الغرب أفريقي، الصورة الجديدة للاستعمار الاقتصادي في غرب القارة السمراء.
لم تقدم الحكومة الموريتانية لعامة الشعب في بدايات سك العملة، أي تفسير لوجود تلك الصورة في الأوراق النقدية، كما لم تفعل الحكومات اللاحقة، ولكن مع مرور الوقت تعايش الموريتانيون مع “الشيخ الوقور”، ولم يعد يثير وجوده أي تساؤل، واستسلم خيالهم للمجهول حول أصله، بعد أن أعياه الحصول على تبرير، حتى أن القصص التي حيكت حوله لم تعمر في غالبها طويلاً.
قصة “شيخ” الأوقية
بداية قصة “الشيخ الوقور” مع أوراق الأوقية كانت عام 1974، حين أرادت موريتانيا تغيير مكان طباعة عملتها من الجزائر إلى ألمانيا، حينها كان أحمد ولد داداه هو محافظ البنك المركزي الموريتاني، وهو الأخ غير الشقيق للرئيس الراحل المختار ولد داداه، ورئيس حزب تكتل القوي الديمقراطية المعارض حاليا.
في طريقه إلى ألمانيا لبحث إجراءات طباعة العملة هناك بدلا من الجزائر، كان لولد داداه توقف في العاصمة السنغالية داكار، تقتضيه ضرورات الرحلات الجوية، وقبل موعد مغادرته لطباعة إحدى رموز السيادة الموريتانية بعد التحرر من المستعمر، زار جزيرة “غوري”، حيث كانت تسلب حرية الأفارقة ليتم نقلهم كعبيد للعمل في القارة الأمريكية.
خلال تجواله في شارع الفنانين في هذه الجزيرة الرمز، حيث يعرض بعض الفنانين أعمالهم، شاهد لوحة لفنانة تشكيلة فرنسية، جسدت صورة شيخ وقور ومن خلفة شاب يافع، يحملان ملامح رجال الصحراء الموريتانيين.
استوقفت اللوحة محافظ البنك المركزي الشاب حينها، ورأي فيها ملامح يعرفها جيدا على الضفة الأخرى من نهر السنغال، فقرر الحصول على اللوحة ليصحبها معه إلى المانيا، حيث تم اقتطاع صورة الشيخ فقط من اللوحة، وطباعتها كصورة مائية في أوراق العملة الموريتانية.
وكان المختار ولد داداه قد رفض أن توضع صورته على العملة الجديدة، معتبرا أنها عملة لكل الموريتانيين لذلك لا يجب أن تحمل إلا ما يجمعهم في المستقبل، وما لا يحسب على جهة دون أخرى.
صاحبة اللوحة
“ميرتو ديبارد” هي صاحبة اللوحة المتعارف عليها باسم “الشيخ الوقور”، كما تبدي ملامحه، وهو اسم أطلق في الأوساط المحلية، على الشيخ العجوز صاحب الصورة المائية في العملة الموريتانية، دون أن يكون هو الاسم الحقيقي للوحة الفنانة الفرنسية.
زارت “ديبارد” موريتانيا والنيجر ومالي، واحتفظت بملامح رجال الصحراء أو “الرجال الزرق”، وانبهرت بنبلهم وغموضهم، لذلك احتفظت بسر تفاصيل ملامحهم، وقدمت أعمالا حولهم، فكانوا حاضرين في جل رسوماتها ما بين العام 1937 إلى وفاتها عام 1983.
عرضت لوحاتها حول رجال الصحراء خلال أكثر من خمسين معرضا في نواكشوط ودكار وباماكو وابيدجان وباريس، وكانت تعرض كل عام في جزيرة “غوري”، حيث المكان الذي التقاها فيه أول مرة محافظ البنك المركزي عام 1973، واشترى منها لوحة ستشغل حيزا في عملة البلد الخارج توا من استعمار جثم على أرضه عدة عقود، وتثير فضول واستغراب الموريتانيين حتى اليوم.
ولدت “ميرتو ديبارد” عام 1900 في قرية صغيرة في جبال الألب تدعى “تريسكليو”، وكان والدها قسيسا، انتقل إلى الجزائر حيث أقام لسنوات مع أسرته، قبل أن يسافر إلى العاصمة السنغالية دكار ويستقر فيها لضرورات العمل، وهو ما أتاح لابنته “ميرتو” أن تخوض سلسلة رحلات للمناطق التي يقيم فيها “الرجال الزرق” كما كان يسمي بعض الأوروبيين الرجال في المناطق جنوب الصحراء، نظرا لألوان عمائمهم، وحتى بشرتهم القمحية المختلفة عن غيرها.
توفيت الفنانة الفرنسية في الثلاثين من أكتوبر عام 1983 في العاصمة الفرنسية باريس، بعد أن كرست معظم أعمالها حول رجال الصحراء وثقافة الشعوب التي ينحدرون منها.