الشيخ محمد حرمه – الرياض (صحراء ميديا)
“ناجي” شابٌ سعودي في الثانية والعشرين من العُمر، درس صيانة الطائرات، وهو الآن يعملُ في القسم الفني بمطار الملك خالد بن عبد العزيز في العاصمة الرياض، قرر أن يحتفل على غرار 35 مليون سعودي بذكرى مرور ثلاثة قرون على تأسيس الدولة السعودية؛ “يوم التأسيس” الذي يوافق 22 فبراير من كل عام.
كان “ناجي” يرتدي زيا تقليديًا عتيقًا، حين سألتُه عن رمزيته، قال إنه الزي القديم في منطقة نجد؛ عقال ذهبي فيه عُقد سوداء “العقال المقصب”، مع بشت أسود فخم، وحزام ينزل من صدره نحو خصره، اختار “ناجي” الاحتفال بزي أهل نجد مع أنه ينحدر من مدينة “أبها”، أكبر مدن “عسير” في أقصى جنوب غربي المملكة.
المهندسُ الشاب القادم من جبال “عسير”، يحس بالفخر وهو يحتفلُ بيوم التأسيس في مدينة الرياض، لأن بداية القصة كانت من هنا في “الدرعية”، على يد الإمام محمد بن سعود في شهر فبراير من عام 1727، ولكنه لا يتوقفُ عن إرسال واستقبال مقاطع فيديو قصيرة عبر تطبيق “سناب شات”، يتقاسم فيها لحظات الفرح مع أصدقائه وعائلته في “أبها”.
يثبتُ باعتزاز العلم السعودي الأخضر على مقدمة سيارته، ويلصقُ على جنباتها شعار الاحتفال “يوم بدينا”، مع أهازيج وطنية تنبعثُ من سيارته، وسط زحمة الرياض التي لا تتوقف، فالمدينة هي الأسرع نموًا في الشرق الأوسط.
“ناجي” وهو يحتفل كان يمارسُ عمله الإضافي، كسائق في شركة “كريم” للنقل التشاركي، يجوب شوارع المدينة وسط أمواج المحتفلين، يقول لنا: “كلنا اليوم نستعيد أصالتنا، في اللبس والأكل والغناء والرقص، هكذا نحتفل بلحظة التأسيس، ولا مانع من استغلال الوقت للربح”، ثم يضحك.
يصعدُ “ناجي” مع شارع العليا، ثم يشيرُ إلى برج الفيصلية: “قبل سنوات كان هذا البرج في أطراف الرياض، واليوم أصبح وسط المدينة، كما أنه كان مضرب مثل في العلو، واليوم تكاثرت الأبراج حتى لم يعد أحدٌ يذكره”.
ودعناهُ بعد أن أخذ لفّة خلف برج “الفيصلية”، وتوقف أمام “مكتبة الملك فهد الوطنية” التي شيدت ثمانينيات القرن الماضي بمبادرة من سكان الرياض لتكون مكتبة عامة، قبل أن يحولها الملك سلمان بن عبد العزيز إلى مكتبة وطنية فخمة، تمتد على 87 ألف متر مربع، وتحوي ما يزيد على مليونين ونصف المليون كتاب ووثيقة.
عند مدخل المكتبة نُصبت جدارياتٌ تَعرضُ الأنماط الثقافية في مختلف مناطق المملكة، بعضها ما يزالُ فارغًا يعكف عليه فنانون شبان، يرسمون بألوان رملية لوحاتٍ تراثية، فيما لا يضيع الزوار فرصة تصوير هذه اللحظات، وتبادلها عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، فكل مشهد في هذه المدينة يتحولُ بسرعة إلى “محتوى” قابل للتداول.
وسط الجداريات المتناثرة في ساحة المكتبة، أقيم ممرٌ علقت على جانبه صور الملوك الذين تعاقبوا على حكم السعودية، خلال القرن الأخير؛ من الملك عبد العزيز آل سعود الذي وحد المملكة في إطار ما يعرف بالدولة الثالثة، وصولًا إلى صورة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد وقائد التحول العميق الذي تعيشه السعودية منذ 2016.
وغير بعيد من ذلك، محلات تقليدية تتيح فرصة تذوق مأكولات شعبية، أغلبها غير متاح في المطاعم العالمية التي تملأ شوارع المدن السعودية، ويعد الاحتفاء بها جزء مهما من “يوم التأسيس”، على حد تعبير أحد العاملين في المكتبة وهو يشرحُ لنا كيف تحتفلُ المكتبة بالعيد على غرار كافة المؤسسات العامة والخاصة في السعودية.
بدأ الاحتفال بذكرى “يوم التأسيس” العام الماضي حين أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أمرًا ملكيًا يقضي بأن يكون 22 فبراير من كل عام يومًا للتأسيس، باعتباره “لحظة لتكريس ذكرى تاريخية عريقة، مهدت لنشوء دولة راسخة جمعت تحت رايتها مجتمعًا متطلعًا لاستدامة مسيرته الحضارية”.
الملك سلمان بن عبد العزيز، في تغريدة نشرها عبر تويتر قال إن بلاده طوال ثلاثة قرون، أي منذ قيامها عام 1727م، كان التلاحم والاستقرار فيها “الأساس الذي يجسد عراقة هذا الوطن أرضًا وإنسانًا”، وأضاف في تغريدته أن السعودية “تستذكر بكل اعتزاز يوم التأسيس، منذ قيام الدولة المباركة، عاصرنا خلالها مختلف التحديات وتجاوزنا فيها جميع الأزمات”.
نستذكر في المملكة العربية السعودية بكل اعتزاز ذكرى يوم التأسيس، الذي يعبر عن نحو ثلاثة قرون من قيام كيان هذه الدولة المباركة عام 1727م- 1139هـ عاصرنا خلالها مختلف التحديات وتجاوزنا فيها جميع الأزمات، وكان التلاحم والاستقرار هو الأساس الذي يجسد عراقة هذا الوطن أرضاً وإنساناً.
— سلمان بن عبدالعزيز (@KingSalman) February 22, 2023
أما ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يقود رؤية 2030، فقد أعلن بمناسبة “يوم التأسيس” إنشاء مكتب استراتيجي لتطوير منطقة الحدود الشمالية، وهي المنطقة الصحراوية المحاذية للأردن والعراق. خطة ولي العهد هي أن يعمل المكتب الاستراتيجي على استثمار المقومات الاقتصادية والطبيعية والتاريخية للمنطقة الشمالية، وموقعها الحدودي الاستراتيجي، من أجل “رفع مستوى التنمية في مدن ومحافظات المنطقة، وتعزيز جودة الحياة لسكانها وزوارها”.
الأمير الشاب محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، سبق أن أسس عدة مكاتب استراتيجية لتطوير مناطق أخرى من المملكة، ضمن “رؤية 2030” التي أعلن عنها عام 2016، لدخول مرحلة ما بعد النفط، وتعد العاصمة الرياض هي القلبُ النابض لهذه الرؤية، فالمدينة التي يقطنها أكثر من 10 ملايين نسمة، تصنف ضمن أكثر مدن العالم توسعًا ونموًا، إنها مدينة تتغير بسرعة هائلة.
حين تلتفتُ الرياض نحو الماضي لتخلد ذكرى التأسيس، فهي أيضًا تتطلعُ نحو المستقبل، تلك هي العبارات التي استخدم موظف في وزارة الإعلام السعودية كان يرافقنا في جولة إلى “بوليفارد وورلد” الذي يعد واحدة من أكبر المدن الترفيهية في العالم، افتتحت قبل أسابيع، في الناحية الشمالية الغربية من مدينة الرياض.
على الرغم من أنها مدينة ترفيهية، إلا أنها كانت ثقافية أيضًا، تمنح فرصة التجول في عشر دول مختلفة، تفصلُ بينها أكبر بحيرة صناعية في العالم، وفيها أيضًا أكبر مسرح كروي في العالم، وفعاليات ترفيهية لفرقٍ قادمة من مختلف الدول والثقافات.
يقول مرافقنا السعودي: “هذه المدينة الترفيهية الضخمة ليست وحدها، إنها جزء من مشروع أكبر، لتنويع الاقتصاد السعودي”، ويضيف الشاب الذي سبق أن قام برحلات سياحية إلى دول أوروبية عديدة: “الآن لم يعد السعوديون بحاجة للسفر إلى الخارج بحثا عن الترفيه، كل شيء أصبح متوفرًا؛ هنا الطبيعة الساحرة والتاريخ والترفيه، حتى عدد السياح الأجانب الذين يأتون إلينا في السعودية تضاعف عدة مرات”.