شبّه الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية يحيى ولد أحمد الوقف، الساحة السياسية في موريتانيا بالحالة المناخية لمدينة نواكشوط، ليبرر بذلك التقلبات غير المنطقية التي تعيشها الساحة، والتي يبدو أنها دفعت نحو تعليق مسار التشاور الوطني، بعد مرور 14 شهرا من التحضير المستمر تارة، والمتقطع تارات كثيرة.
بالفعل قبل أيام قليلة كانت أجواء مدينة نواكشوط صافية، ودرجات الحرارة معتدلة، ولكنها تبدلت بشكل مفاجئ، فارتفعت درجات الحرارة وبدأت رياح شمالية – شرقية تهب على المدينة، محملة بالغبار والأتربة، وأصبحت الرؤية أكثر تشويشًا، نفس القراءة يمكن أن تنطبق على الوضع السياسي، الذي انتقل وبدون سابق إنذار من الصفاء والهدوء إلى الضبابية والتوتر.
في هذه الأجواء جاء قرار تعليق عمل اللجنة المكلفة بالتحضير للتشاور الوطني، وهو قرار لم يكن يحمل أي مفاجأة، وإن كان يستدعي قراءة متأنية للمستجدات التي طرأت منذ تكليف ولد أحمد الوقف برئاسة اللجنة، شهر أبريل الماضي على رأس فريق يمثل السلطة التنفيذية.
أعلن ولد أحمد الوقف في أول خطاب له أن وتيرة التشاور تتطلب “السرعة” لأنه قد يسفر عن قرارات وإجراءات، يتطلب تطبيقها المرور عبر مجلس الوزراء والبرلمان، والانتخابات أصبحت على الأبواب، ولكنه عاد ليقف أمام الصحفيين بعد أسابيع، ليعلن أنه من أجل أن يكون التشاور شاملا فإنه يتطلب “السير ببطء”.
ماذا تغير خلال خمسة أسابيع، جعل السلطة التنفيذية تنتقلُ من السرعة القصوى إلى التوقف التام؟! أم أنه “المناخ” لم يعد مؤاتيًا؟!
رفضت اللجنة وهي تعلن تعليق مسار التشاور الوطني، أن تحمل المسؤولية بشكل مباشر لأي طرف، وبالتالي تفادت الكشف عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تعثر التحضير للتشاور، مكتفية بإلقاء المسؤولية على ما سمته “السياق”، وهي كلمة مبهمة، تحملُ من دواعي الغموض أكثر من أسباب التوضيح.
حاول ولد أحمد الوقف أن يخلي مسؤولية السلطة التنفيذية حين قال إنها بذلت كل الجهود من أجل إقناع الجميع بالمشاركة، مستحضرا قناعتها السابقة بعدم جدوائية التشاور، لأن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني “لا تنقصه الشرعية”، ونجح في تهدئة الساحة السياسية، ولكنه استجاب لمطالب الأطراف السياسية.
ولد أحمد الوقف خلال حديثه ظل ينطلق من موقع الممسك بالعصا من الوسط، ما بين الأطراف السياسية، وهو الذي يحمل صفة نائب رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، مع أكثر من عشر سنوات قضاها في صفوف المعارضة، ولكن أسئلة عديدة كانت تطرحُ حول علاقته “المتوترة” ببعض المنسحبين من التشاور، وخاصة الرئيس مسعود ولد بلخير.
بعث ولد أحمد الوقف برسائل ضمنية لنفي أن يكون له أي ضلع في تعثر التشاور، وقال مدافعًا عن اللجنة المكلفة بتحضير التشاور: “نحن كلجنة ليس لدينا أي خلاف مع أي طرف سياسي”، كان ذلك دفاعًا عن نفسه في المرتبة الأولى.
وفيما كان يدافع عن السلطة التنفيذية وعن الأغلبية واللجنة، بدا وكأنه يحملُ المسؤولية لأطراف المعارضة التي انسحبت من جلسات التحضير، خاصة حين قال إنها تخلفت لأسباب لا علاقة لها بالتشاور، من حيث تحضير المواضيع والمشاركين، ولكنه سرعان ما عاد لمحاولة إمساك العصا من الوسط حين قال: “لا نسعى لتحميل المسؤولية لأي طرف”.
وأضاف أن “السياق” هو الذي تغير وأصبح لا يخدم تنظيم “تشاور شامل”.
ومن أجل توضيح هذا الموقف الذي يسعى صاحبه إلى إظهار التوازن، قال: “حين لاحظنا أن الجو لم يعد مناسبا للتوفيق بين الأطراف السياسية، قررنا أن نأخذ الوقت الكافي، حتى تراجع الأطراف السياسية نفسها، وتلتقي فيما بينها”.
الرجلُ الذي أسندت إليه مهمة تحضير التشاور، أصر على أنه لم يفشل في المهمة، بل إنه أكد أن التحضير للتشاور “نجح” وأصبحت الوضعية تتطلب الذهاب مباشرة إلى ورشات التشاور نفسه، وقال: “التحضير نجح واكتمل”.
استخدم ولد أحمد الوقف عدة مصطلحات ليصف القرار الذي اتخذته اللجنة، فوصفه مرة بأنه “تعليق”، ومرة بأنه “السير ببطء” أو “التوقف”، وقال إن الرابط بين جميع هذه المصطلحات هو السعي نحو تحقيق هدف “مشاركة الجميع في التشاور”.
للخروج من لعبة الكلمات، شرح ولد أحمد الوقف موقفه قائلا: “من حيث الآلية فإن التحضير للتشاور نجح، ولكننا توصلنا إلى أن السياق الحالي لم يعد يخدم التشاور”، ولكنه خرج من لعبة الكلمات ليدخل في لغز جديد، لم يرد المهندسُ أن يقدم له أي حل، تاركًا المهمة للصحفيين الحاضرين.
ما خلص إليه الرجلُ في حديثه، هو أن التشاور من حيث المبدأ مهم، ولكن بشرطين لا غنى عنهما، أولهما “شموليته” من حيث إشراك الجميع فيه، وثانيهما أن يحافظ على “التهدئة السياسية” التي وصفها بأنها “استثمار مهم”، وقال إن تحقيق هذين الشرطين “يفرض علينا التريث”، وها نحنُ أمام لغز جديد، أيهما شرط للآخر: التهدئة والتشاور؟!
كان واضحا منذ البداية أن التشاور الوطني لن يتم إلا في ظل التهدئة السياسية، ذلك ما أكدته جميع الأطراف، كما أن أطرافا في المعارضة كانت تربط الاستمرار في الهدنة السياسية مع النظام، بتحقيق مطلبها بتنظيم التشاور والمشاركة فيه.
ذلك ما اتضح من موقف النائب البرلماني بيرام الداه اعبيد، الذي علق مشاركته في التشاور حين اعتبر أن التهدئة لم تعد موجودة بسبب نزع الشرطة في مدينة أطار، للافتة تحمل اسم حزب “الرك” غير المرخص.
الواضح هو أن “التشاور” مطلب للمعارضة لا يثير حماس السلطة، و”التهدئة” مكسب للسلطة لم يعد مريحًا ولا مربحًا للمعارضة، وبين هذا المطلب وذاك المكسب تتغير الكثير من المعطيات، وتتبدل الكثير من المواقف.
في غضون ذلك، حاولت السلطة أن تضع الكرة في مرمى الأطراف السياسية، حين قال ولد أحمد الوقف إن قرار التعليق جاء من أجل منح الأطراف السياسية فرصة “خلق ظروف جديدة تمكن من تنظيم تشاور شامل”، بل إنه كان أكثر وضوحا حين قال إن ذلك غير مرتبط باللجنة ولا بالسلطة “وإنما بالطيف السياسي، وكيف سيدير علاقاته البينية”.
ولكن السلطة على لسان ولد أحمد الوقف، كشفت خطتها البديلة في حالة فشل تنظيم “التشاور الوطني الشامل”، حين ضرب المثال بجلسات التشاور الوطني حول إصلاح النظام التعليمي، التي انعقدت نهاية العام الماضي، وقال إنها كانت “ناجحة” من حيث المشاركون والمخرجات.
وأضاف: “نفس الطريقة التي نظمنا بها تشاور التعليم، سنعتمدها في حالة تعذر انعقاد التشاور الشامل، بطريقة تضمن أن تجري كل الأمور في وقتها”.
هل يعني ذلك أن السلطة قد تتجه نحو “تشاور جزئي” لكل ملف على حده، وهل ستكون الطرقُ سالكة أمام هذه “التشاورات” المتفرقة والمتشعبة، والبلاد مقبلة على موسم الأمطار والعواصف، وموسم سياسي سيكون ساخنا ومتقلبًا، ما دامت هنالك صلة وثيقة بين “المناخ” و”السياسة”.