بعد رحلة طويلة في مفازات الصحراء الوعرة، وصل عبد الله (اسم مستعار) إلى قرية «مدينة»، عشر كيلومترات جنوب شرقي مدينة «باسكنو» على الحدود الموريتانية – المالية، تنفس الصعداء بعد رحلة طويلة، وأحس أنه أخيرا وصل إلى بلده، وأصبح بمنأى عن أراضي مالي الملتهبة.
نام نوما عميقا تحت سماء بلاده المتخيلة، فأمامه رحلة طويلة إلى نواكشوط، وما إن وصل العاصمة واستراح من وعثاء السفر الطويل، حتى نما إليه أن جماعات تابعة للجيش المالي دخلت قرية «مدينة» المالية! واعتقلت عددا من الشباب قبل أن تعدمهم بالرصاص قرب «بئر العطاي» داخل الأراضي المالية.
هزه الحادث وتفاجأ بأن مضيفيه قبل أيام أصبحوا ضحايا لحادث هز البلاد، قبل أن تصدمه أن قرية «مدينة» ليست بالضرورة موريتانية، فالتداخل الحدودي بين البلدين أكثر تعقيدا مما نعتقد، فموريتانيا ومالي ترتبطان بحدود شاسعة، أكثر من مائتي ألف كيلو متر مربع، أغلبها في صحراء «المجابات الكبرى»، حدود ظلت ساحة خصبة لشبكات تهريب المخدرات، قبل أن تصبح الوجهة المفضلة للجماعات الإسلامية المسلحة مطلع الألفية الجديدة.
لكن الحدود بين البلدين ليست كلها قحطا وجدبا، فالحدود الجنوبية الشرقية بين البلدين تعتبر مرتعا خصبا فهي قريبة من منطقة «السافانا السودانية الغربية» الخصبة التي تمتد من ساحل المحيط الأطلسي في السنغال إلى جبال «ماندارا» على الحدود الشرقية لنيجيريا.
خصوبة هذه الأراضي جعلتها وجهة مهمة للمنمين الموريتانيين، فالحدود بين موريتانيا ومالي متداخلة ولم ترسم بعد بشكل نهائي، حتى أن العديد من القرى الموريتانية داخل الأراضي المالية يوجدُ بها علم موريتاني ومكاتب تصويت موريتانية.
فاجعة «مدينة»..
قبل عشر سنوات، التقى السياسي الموريتاني والزعيم القبلي الشيخ ولد سيدي الخير بالرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز، طلب منه أن يحفر له بئرا ليؤسس عنده قرية سماها «مدينة».
شيد ولد سيدي الخير رفقة إخوته منازل في القرية، فيما شيدت بعض الأكواخ هنالك للمنمين والرعاة والأسر المرتبطة بالمحيط الاجتماعي لولد سيدي الخير التي تمتلك عددا وفيرا من المواشي.
ظل ولد سيدي الخير، في قريته التي لا تبعد كثيرا عن غابات «وقادو» التي كنت مسرحا لواحدة من أكثر العمليات عنفاً بين الجيش الموريتاني وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أواخر يونيو 2011.
مطلع شهر مارس الماضي، اقتحمت دوريات تابعة للجيش المالي مرفوقة بطائرة استطلاع قرية «مدينة»، واقتادت عشرات الشباب الموريتانيين (بعضهم يحمل الجنسية المالية إلى جانب الموريتانية) إلى منطقة مجهولة، قبل أن يعثر على جثثهم قرب بئر «العطاي» داخل الآراضي المالية، في فاجعة هزت البلاد.
الجيش المالي يخوض في الآونة الأخيرة معركة شرسة مع مقاتلي جبهة تحرير ماسينا المتركزة في الشريط الحدودي التي وقعت فيه الأحداث التي أصحبت تعرف بأحداث «العطاي».
مصادر محلية، أكدت لصحراء ميديا أن الجيش المالي عاد بعد «حادث العطاي» إلى قرية «مدينة» «وعاث فيها فسادا» ما اضطر سكان المنطقة إلى النزوح إلى مدينة «باسكنو» لتصبح قرية «مدينة» خالية على عروشها.
اللاحدود..
منذ عقود من الزمن وموريتانيا ومالي تحاولان ترسيم حدودهما الشاسعة، لكنها معركة شبه مستحيلة نظرا لطبيعتها الصحراوية من جهة، وللتداخل السكاني المربك من الناحية الثانية.
قبل عقد من الزمان اتفق الطرفان بعد العديد من جولات المفاوضات على الإطار النهائي لترسيم الحدود بين البلدين، وظلت تجتمع سنويا لجنة مشتركة لترسيم الحدود.
لكن العلاقات الاجتماعية بين القبائل المقسومة بين البلدين ظلت أقوى من أي حدود مرسومة، كما أن مئات الأشخاص الذين يتبعون مواشيهم بحثا عن أماكن أفضل للكلأ والمرعى يكفرون بسياقات الحدود التقليدية.
مسؤول محلي رفيع المستوى، قال لصحراء ميديا، إن الشريط الحدودي بين البلدين يصل عرضه إلى عشر كيلومترات، خمسة في الجانب الموريتاني وخمسة في الجانب المالي، مشيرًا إلى أن قرية «مدينة» تبعد أربع كيلومترات من خط الحدود، أي أنها داخل الشريط الحدودي.
وأشار المسؤول إلى أن الاتفاقيات تسمح لكلتا الدولتين في دخول الشريط الحدودي، والتحرك فيه لضمان أمن وسلامة السكان المحليين.
توجد عدة تجمعات سكنية مشابهة لقرية «مدينة» تائهة بين الدولتين، لا يعرفُ أهلها إذا كانوا ماليين أو موريتانيين، بعضهم يحمل جنسية البلدين في سرية تامة، وبعضهم لا يمتلك أي وثيقة رسمية.. ينتمي فقط إلى ذلك الفضاء الممتد نحو أفق أصبح محفوفا بالمخاطر أكثر من أي وقت مضى!.