بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على النبي العربي الكريم وعلى الآل والصحب
وبعد،
فقد تطرقت في مقالي السابق (الطيران المدني في موريتانيا 1) إلى الحال البائس للناقل الجوي الوطني، وذكرت محاولاتي إعلام السلطات كتابيا دون أن أتلقى أي رد يستحق الذكر. ونسبت مصاعب الشركة لعاملين أساسيين أولهما غياب استراتيجيات علمية ذات أطر تنظيمية فاعلة كان على الحكومة وضعها قبلا ومن ثم متابعة تنفيذها، وثانيهما تعيين مسيرين قليلي خبرة، ومحاطين ببطانة شاغلها الأشغل محاباة المسيرين خوفا وطمعا. ذانك العاملان تآزرا في تناغم محكم فكونا حلقة مفرغة سببت وهنا بنيويا لن يتخلص منه بحلول ترقيعية.
وسأواصل نفس النهج الصريح غير الموارب، وإن فشى ببعض إحساسي بالمرارة، لما رأيت بأم عيني من وضع مؤسف للطيران المدني رغم كل الموارد البشرية المقتدرة والمبالغ المادية المبذولة. وإن أملي لعظيم أن أجد فيكم آذانا صاغية وأيد عاملة، لئلا تصبح بلادنا فريسة سائغة للمفسدين قصدا أو سفاهة. فالأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، ويا ليتنا نرى في الآفاق ما يبشر بغير ذلك.
بما يناسب المقام، سأشير في عدة مناسبات إلى الإدارة الحالية للشركة، وما ذاك بتحامل شخصي، وإنه لمن الإجحاف تحميلها وزر جميع المصائب، بل ولأنها الموكلة الفعلية بشؤون الشركة وفي يدها تحسين الواقع أو تسويؤه، من ثم فهي أجدر بالانتقاد، ولا أرى نفعا في لوم الإدارات السابقات، فاللاحقات تتكفل بذلك وعلى أحسن الأوجه. فما من مصيبة إلا وأسندوها لمن سبقهم، وتبقى مسؤولية إثبات ذلك على عواتقهم، وبين أيديهم من المعلومات والصلاحيات ما يتيح ذلك، كما أن عليهم عار تقديم أحسن مما يعيبونه.
تشكل الموريتانية للطيران مرتعا خصبا للاكتتاب والتعيينات المحسوبية، إذ أن قاطبة الإدارات أثخنت في اكتتاب وتعيين وترقية محسوبين على متنفذين، وحتى ذوي قربى المسيرين حظوا بتلك الامتيازات وببجاحة منقطعة النظير، دون أي اعتبار لأهليتهم أو مسابقات معلنة تحدد شروطها مقدما غير تلك المفصلة تفصيلا على مقاييس المستفيدين. وليتهم حين أعفوا من المنصب، رحلوا بذويهم معهم، بل ذهبوا للمنصب التالي تاركين خلفهم تراكيبهم الجينية كتذكار على تبوأ المنصب.
لا أزيدكم علما إن قلت إن وظائف الشركات الجوية من أعلى الوظائف أجرا، والكثير من الشباب الموريتاني المقتدر جسدا وروحا، قد لا يسعفه للظفر بالتوظيف، الانحدار من أسرة ميسورة الحال أو ذات صلة بمتنفذ في السلطة. لم تنظم بعلمي أية مسابقة نزيهة مفتوحة للاكتتاب، فالسواد الأعظم من المكتتبين ظفر بالتوظيف عبر طريقين اثنتين، الأولى: انتقاء مباشر من المدير العام دون مسابقة أو تقييم، وللقرابة الاجتماعية دور عظيم. ولعل أفصح مثال على ذلك أن كثيرا من المكتتبين، يدربون حاليا خارج البلاد وسيصرف من المال العام على تدريبهم مئات الألوف من الدولارات. أما الطريق الثانية فهي لمن منّ الله على ذويه بمال وافر وابتعث للتدريب خارج البلاد، فيكتتب دون إي اعتبار لتحصيله العلمي أو قدراته الذهنية. وبالطبع لا أنفي مقدرة بعضهم على ممارسة وظيفته بصورة حسنة، إلا أن غيره لم تتح له أي فرصة لإثبات قدراته.
بناء على ما أسلفت فإن الاكتتاب دولة بين الأغنياء والمتنفذين، ألا تستأهل أسر معسرة أن يكون من أبنائها المستحقين ذوي دخل مرتفع يخرجهم، وإن كثروا، من براثن الفقر والاحتياج؟
وبالطبع، ودونما مفاجأة، ادعت الإدارة الحالية للشركة، حين استلمت مهامها، أنها ستشكل قطيعة تامة من تلك المسلكيات، قد قالها الذين من قبلها، وواقع الأمر أن التعيينات والترقيات المحسوبية غير المستحقة مازالت على سابق عهدها.
سيقول بعضهم مستكينا متمتما: ذلك حال البلد كله!! ولولا استكانتهم فهم محقون، فالأمر مستشر في وطننا منذ نشأته ولا ينكره منكر، ولوضع الأمور في نصابها السليم سأضيف أننا لو نظرنا إلى التوظيف كوسيلة لتقسيم ثروات البلد فسنجد أن وسائل تقسيم أخرى، لا تقل أهمية، تعاني نفس الاختلال، كتقسيم الأراضي، وإسناد الصفقات.. لا غرو إذا أن نشاهد الفوارق الاجتماعية الصارخة والمتنامية بوتيرة متسارعة، وأن نرى تكديس الثروات في أيدي قلة قليلة من المفضلين. وبعد هذا كله يخرج علينا السياسيون، ودون ذرة حياء، يتحدثون عن المساواة والعدالة واللحمة الاجتماعية ومكافحة الفقر وما إلى ذلك من لغو السياسيين.
لقد سببت تلك المظالم في هجرة العديد من الشباب الموريتاني المقتدر، تشتت في أرجاء البسيطة باحثين عن عيش كريم، يقدح في وطنيتهم يوميا ولم يمسوا مالا للوطن ولم يظاهروا عليه أحدًا، ويعاب عليهم التعبير عبر وسائط عصرهم، عما يجيش في نفوسهم من سخط على من كانوا سببا في تشتيتهم، فأي الفريقين أحق باللوم!؟ أهم الضحايا أم المسؤولون؟ إن أمة عجزت عن الحفاظ على أبنائها ستعجز ذات يوم عن الدفاع عن امتيازات مترفيها.
ذاكم بعضا من جانب التمييز المحسوبي، وهو ينضوي بطبعه على ظلم في حق آخرين، أما الظلم الصافي الزلال فهاكم حثوة منه، كان ذلك قبل بضع سنوات حيث قامت إدارة الشركة آنذاك وبإيعاز خبيث من بطانتها (ما زالت متحكمة) وبعد حملة كيدية كاذبة ذات طابع سياسي، على إثرها فصل تعسفا أربعة طيارين من أمهر وأنزه الذين عرفهم الطيران الوطني، لا لجرم اقترفوه أو لخطأ مهني ارتكبوه، فقط لإخلاء الساحة لبطانة الإدارة العامة، لم يكن المدير ليجرؤ على فعلته تلك دون مباركة السلطات الحاكمة حينذاك.
انصرف أربعتهم في وقار وصمت ودون تظلم، فلمن الشكوى إن كان المؤتمن على العدل مصدرا للظلم؟ اثنان منهم وهما: الحاج عبد الله، عميد الطيارين الموريتانيين، وعزيز ولد أعمر داوود تركا الطيران جملة وتفصيلا وفضلوا البقاء في الوطن دون عمل وبلا راتب تقاعدي أو ضمان صحي، ثالثهم فهو أحمدو ولد محمد لمين (دحمودي)، يعمل حاليا كمدير عمليات في شركة أجنبية، أما الرابع فهو القائد الفذ النبيل الأنوف: عبدول ساتيگي عليه رحمة الله، الذي كنت له في منزلة الابن وقد كفلني، وأنا طيار شاب، توجيها ونصحا وتوبيخا وعلمني من المهنة ما لم أكن لأعلم، سمعت، وأنا مغترب، بخبر وفاته وحيدا بسبب مرض عضال لم يتلق، لضيق ذات اليد، الرعاية الصحية المناسبة ولم تشفع له سنوات خدمته الناصعة في أي سند أو عون، ورغم محنته ذهب إلى بارئه صابرا محتسبا، وإن كان رجل عرفته، خليقا بالترحم والتذكر فهو القائد ساتيگي، رحمه الله وبارك في خلفه. ما زلت إلى الساعة أتألم حسرة على ما أصابه.
يتواصل…
حفظكم الله،