على بعد أمتار قليلة من مقر الجمعية الوطنية بنواكشوط، دشن المقر الجديد للبرلمان الموريتاني، ربما يقطع النواب المسافة سيرا على الأقدام نحو مكاتبهم الجديدة، ولكن هذه الخطوات هي رحلة جديدة يخوضها “مقر” البرلمان المتنقل منذ عام 1958.
أكثر من ستين عاما أمضاها البرلمان الموريتاني في الترحال، ما بين مقرات متناثرة في قلب العاصمة نواكشوط، كلها كانت شاهدة على محطات هامة من تاريخ موريتانيا.
تعقبنا ترحال البرلمان، قادنا إلى الحديث مع عدد من الباحثين والسياسيين الشاهدين على مراحل تأسيس العاصمة، ومنهم من يعتقد أن “الترحال” خصلة جلبناها معنا من الصحراء، وما زالت ترافقنا حتى في أهم مؤسساتنا الدستورية.
أول برلمان في تاريخ البلاد، تشكل قبل الاستقلال وتحديدا عام 1958، وكان مقره في المدرسة رقم 8، التي شيدت ضمن المباني الأولى للعاصمة، على أنها “نواة” لمشروع جامعة نواكشوط، الذي تأخر بعد ذلك لأزيد من عقدين.
في عام 1978، صدر قرار ينص على حماية مبنى المدرسة رقم 8، بصفته جزءا من التاريخ الثقافي لمدينة نواكشوط، فهي التي احتضنت اجتماعات البرلمان الأولى.
بعد سنوات من الإهمال وعدم الصيانة، هدمت المدرسة رقم 8، وبقي قرار حمايتها حبرا على ورق.
القرارات الكبرى
انتقل البرلمان نحو المبنى الواقع قبالة بوابة القصر الرئاسي القديم، وهو الذي سيتحول في وقت لاحق إلى مقر الغرفة العليا في البرلمان (مجلس الشيوخ).
شيد المبنى خصيصا ليكون مقرا للبرلمان، مطلع ستينيات القرن الماضي، وفيه هيمن “حزب الشعب” على المشهد السياسي، وأصبح “الحزب الواحد” للدولة.
ولكن نفس المبنى عاصر أهم القرارات التي اتخذت في تاريخ البلاد، فمنه أعلن المختار ولد داداه “تأميم” ميفرما، وإطلاق عملة “الأوقية”.
بعد انقلاب 1978، علق الجيش عمل البرلمان لمدة ست سنوات، وتحول مقره إلى مكاتب للأمانة العسكرية للخلاص الوطني، الممسكة بمقاليد الحكم.
التعددية والفساد
بعد انقلاب 1984 الذي قاده معاوية ولد سيد أحمد الطائع، دخلت البلاد في مرحلة التعددية السياسية، وعاد البرلمان إلى العمل، ولكن في مقر جديد، بجوار دار الثقافة، هو المقر الحالي.
ثلاثون سنة أمضاها النواب في المقر الحالي، كانت الفترة الأطول والأكثر استقرارا، كما كانت شاهدة على محطات مهمة من تاريخ البلد السياسي.
لعل من أبرز هذه المحطات اعتماد دستور 1991 التعددي، وما خضع له من تعديلات بعد ذلك، وصولا إلى المرحلة الانتقالية وأزمة “الكتيبة البرلمانية” التي أطاحت بالرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
وفي السنوات الأخيرة، كان الحدث الأبرز تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق فيما عرف بـ “ملفات العشرية”، واستجوبت اللجنة في نفس المبنى عددا من الوزراء ورجال الأعمال، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البلد.
العودة
اليوم يلملم النواب أوراقهم، يستعدون للتوجه نحو مكاتبهم في المقر الجديد، الواقع على ناصية شارع جمال عبد الناصر، في الجهة المقابلة للقصر الرئاسي، إنها مواجهة واضحة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
حين يدخل النواب مكاتبهم، سيكتشفون أن القصر الرئاسي في الخلفية، تفصلهم عنه “ساحة الحرية”، ولكن عليهم أن يتذكروا أن مبناهم الجديد المكون من عدة طوابق، بني على أنقاض “المدرسة رقم 8″، لقد عادوا لنقطة البداية.