من الصور العالقة في أذهان سكان نواكشوط، حلقات من الرجال تطارد ظلال الأشجار في ساحة وسط المدينة، يقضون وقتهم في لعب «ظامت»، وأعمدة دخان التبغ المحلي تتصاعد، تدفعها أنفاس منهكة من طول جدال لا ينتهي.
منذ عقود تحولت حلقات النقاش السياسي ببطء إلى جلسات لعب «ظامت»، وتحول المنظرون السياسيون إلى لاعبين محترفين لشطرنج الصحراء كما يلقبها البعضُ، لقد أخذت هذه المعارك الافتراضية مكان الصراع السياسي بين إيديولوجيات، فقدت الكثير من بريقها.
«ظامت» اللعبة التقليدية المنتشرة في الصحراء الكبرى، وظلت حتى وقت قريب حكرا على الكهول المتقاعدين، أو بعض الشباب العاطلين، فهي أفضل وسيلة لقتل وقت هذه الصحراء الرتيب.
لم تكن تحتاج هذه اللعبة الأكثر شعبية، سوى إلى رمل نظيف، يرش بالماء ثم تخط عليه خطوط متشابكة، يتحرك عليها جيشان، الأول من أعواد القش، والثاني من بعر الإبل، وهنالك قواعد يتحرك وفقها «المحاربون» على الرقعة، وفي النهاية يفوز من يبقى محاربوه على «الأرض».
الأسبوع الماضي، خاض اللاعبون المحترفون بطولة نظمتها «الاتحادية الموريتانية لظامت»، وأقيمت المباراة النهائية تحت خيمة في مقر الاتحادية، ولكن في هذه المباراة تغير كل شيء، فقد استبدلت «الأرض» بطاولة من الخشب، رسمت عليها خطوط سوداء، وتساقطت منها أعواد القش واختفى بعرُ الإبل.
لقد أصبحت «ظامت» ابنة المدينة، تلعب بكرات ملونة «بيضاء وسوداء»، ولكن روح اللعبة بقيت كما هي، فقال رئيس الاتحادية لـ «صحراء ميديا» بُداه ولد كَوار: «لن نلعب بعد اليوم على التراب، هذا ما كنا نسعى له، ونعمل عليه منذ وقت طويل، لقد طورناها».
تحمس بعض اللاعبين الشباب لما سموه «تطوير» اللعبة، فيما لاذ بالصمت اللاعبون الأكثر خبرة، صمتٌ رافقته دهشة من ملمس الطاولة، لقد اختفت طراوة الأرض تحت أقدام «محاربيهم»، وحين سألنا أحدهم عن هذا «التطوير»، رد باقتضاب: «هذا قرار الاتحادية، ونحن نعمل وفق مقرراتها».
أحد اللاعبين وهو يتحدث معنا، اعتبر أن التطوير الذي خضعت له اللعبة أعمق من مجرد تغيير شكلي، وقال إن الاتحادية «نقلتها من لعبة لتزجية الوقت وملء الفراغ، إلى لعبة احترافية تنظم فيها بطولات وطنية، وتحصد فيها الألقاب، وتوفر عملا لبعض العاطلين».
كان نهائي البطولة ساخنا؛ ثلاث مباريات لكل منها حكمها وجمهورها، مباراة للشيوخ ومباراة للشباب وأخرى للترتيب.
ما إن بدأت المباريات حتى دخل الجميع في صمت مطبق، وخيم الهدوء على المكان لأكثر من ساعتين، لا صوت يعلو على قرع الكرات على الطاولة الخشبية، وهمهمات الجمهور بين الفينة والأخرى، فالقانون الأول في هذه اللعبة: «يمنع منعا باتا تدخل الجمهور» !