في العاشر من شهر أبريل 2021، نظمت جمعية «الضاد»، تظاهرة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، ولكن الجمعية الناصرية كانت تحتفي أيضًا بالذكرى 37 لما يعرف بانتفاضة 1984 الناصرية ضد نظام حكم الرئيس الموريتاني الأسبق محمد خونا ولد هيدالة.
جلس إلى المنصة في صدر التظاهرة بدار الشباب القديمة، عدد من قادة التيار الناصري في موريتانيا، التحقت بهم سيدة على كرسي متحرك، ترتدي ملحفة بدوية سوداء، جلست في أقصى اليسار، وظلت طيلة التظاهرة تخفي أغلب ملامح وجهها.
كانت السيدة هادئة، تستمع بتؤدة للخطابات الافتتاحية، لم تستطع الوقوف للنشيد الوطني، وقف الجميع من حولها، وهي التي تجاوزت منتصف عقدها التاسع، ولكنها أصرت على الحضور والكلام أمام شباب «الناصريين»، كان صوتها مبحوحا فيه ضعف واضح.
قالت بصوتها الهادئ، مخاطبة شباب الحركة، إن عليهم التمسك باللغة العربية وقضايا الوحدة العربية، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين.. إنها أيقونة التيار «الناصري» في موريتانيا «زينب بنت امياه».
يقول الكاتب الصحفي والناشط في حركة الناصريين محمد سالم ولد الداه، في حديث مع «صحراء ميديا»، مستحضرا تفاصيل هذا اليوم: «خاطبتنا بنفس اللغة التي كانت تخاطبنا بها في بداية ثمانينيات القرن الماضي.. إذ رددت الشعارات المعروفة لدى الناصريين مثل (لا للتحالف العسكري الرأسمالي)، كما دعت إلى الوقوف ضد المؤامرات التي تتعرض لها الأمة العربية».
أما عن بداية معرفته بـ «زينب بنت امياه»، فيقول ولد الداه إنها تعود إلى بداية الثمانينيات، حين كان الصراع الإيديولوجي بين التيارات القومية والإسلامية، يبلغ أوجه في العاصمة نواكشوط، وكانت هي صوتُ الناصريين الصادح، «لقد ألهمتنا كشباب»، يقول ولد الداه.
مرت أربعة عقود، وشاخت الأيقونة وضعفت، حتى كأنها أصبحت تجسيدا لوضع التيار الناصري الذي كان من أقوى التيارات السياسية في موريتانيا، قبل أن يخفت بريقه مع مرور الزمن، ولكن الجذوة بقيت مشتعلة في نفوس بعض المخلصين، هم أولئك الذين حضروا تظاهرة جمعية «الضاد».
كان ذلك في شهر أبريل، وبعد خمسة أشهر وتحديدا مساء السبت الماضي، عثرت الشرطة الموريتانية، في منزل متواضع بمقاطعة عرفات، على جثمان هذه السيدة التي عاشت سنواتها الأخيرة، في عزلة شبه تامة، بعد وفاة ابنتها الوحيدة قبل 6 سنوات.
قال أحد أقاربها في حديث لـ «صحراء ميديا» إن السيدة دخلت ليل السبت/الأحد، إلى غرفتها وأغلقت الأبواب،وفي اليوم الموالي لاحظت جارتها التي كانت تقوم على شأنها في بعض المرات، أنها لم تفتح الباب كعادتها، فاستدعت أقاربها، الذين اتصلوا بالشرطة لتكسر الباب، فجدوها في وضعية أقرب للسجود، وقد فارقت الحياة.
البداية
ولدت «زينب» في ضواحي مدينة كيفه، منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، في أسرة محافظة ومشتغلة بالتعليم المحظري، وفي نفس العام الذي ولدت فيه «زينب» كان الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر يخوض أول تجربة نضالية له حين قاد مظاهرة طلابية ضد الإنجليز نوفمبر 1935.
لا توجد معلومات كثيرة عن طفولة «زينب»، ولكنها لن تختلف عن طفولة الموريتانيين في ذلك العصر، فيما يقول مصدر خاص إنها تزوجت في خمسينيات القرن الماضي من تاجر في أفريقيا يوصف بأنه ثري، ويملك سمعة طيبة، بل إنه «يعتبر من أبرز رجالات لعصابة وأشدهم كرما»، وفق تعبير المصدر الذي تحدث لـ «صحراء ميديا».
سافرت «زينب» مع زوجها إلى العاصمة نواكشوط، المدينة الفتية التي تضجُ بالشباب الحالمين بغدٍ أفضل، وكان نجم جمال عبد الناصر قد سطع في العالم العربي وفي أفريقيا، إذ كان يمثل رمز تحرر لدى الكثير من شعوب العالم الثالث، فشد عبد الناصر انتباه «زينب» لتعتنق ما كان يعرف آنذاك بـ «الفكر الناصري».
يقول مصدر كان شاهدا على تلك المرحلة: «لا أتذكر بالضبط متى اقتنعت بالفكر الناصري، ولا أعرف مدى اقتناعها به، أو فهمها له، فهي سيدة غير متعلمة، وإن كانت خارقة الذكاء، ولكنها مزاجية، وإذا أحبت شيئاً، فإنها تندفع فيه دون تردد، كما أنها تتمتع بشجاعة منقطعة النظير».
ويضيف بحسانية تحاول وصف شجاعتها: «الناس كاملة ما تمل عينها.. الناس كاملة.. ولاهي مبالغة».
طيلة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان منزل «بنت امياه» في مقاطعة الميناء، مأوى للناصريين، فيه يعقدون اجتماعاتهم السرية، ويجد فيه من لا سكن له مكاناً للراحة والأكل والشرب، وفيه تكتب المناشير المناوئة لنظام الرئيس محمد خونة ولد هيدالية، الذي يصفه الناصريون بـ «النظام الرجعي»، وبأنه تحالف بين «رأس المال والعسكر».
يقول مفتش التعليم، والقيادي في حركة الناصريين، سيدي محمد ولد أخليفة، لصحراء ميديا: «التقيت في بيتها بأبرز مناضلي التيار الناصري».
المواجهة
في أبريل 1984، بلغت المواجهة بين نطام ولد هيدالة والتيار الناصري مرحلة «اللا عودة»، فقد اندلع ما يطلق عليه الناصريون «انتفاضة أبريل المجيدة»، التي قتل فيها شخصان، واعتقل مئات الشباب الناصري، وفق سرديات الناصريين.
كان ذلك التاريخ فارقا في حياة بنت امياه، إذ وضعت رهن الإقامة الجبرية في مدينة كيفه، غير بعيد من المكان الذي ولدت فيه، إلا أن بنت امياه التي تجاوزت آنذاك الأربعين من العمر، رفضت أن تخضع أو أن تستسلم، بل إنها كانت تنسج الشعر، لتعلن فيه تمسكها بالفكر الوحدوي والناصري، وتصف نفسها بـ «الكهلة الناصرية»، وقد اشتهرت إحدى هذه القصائد.
وصل معاوية ولد الطائع إلى الحكم أواخر ذلك العام، ودخل في هدنة مع الناصريين، وأطلق سراحهم من السجون، بل إن بعضهم تقلد مناصب كبيرة في الدولة، لتطوى بذلك مرحلة من تاريخ الحركة إلى الأبد، فاختفت «الكهلة الناصرية» من الساحة.
يبدو أنها انشغلت بحياتها الخاصة، فتزوجت بعد وفاة زوجها الأول، عدة مرات، أنجبت فتاة وحيدة سمتها «خدى»، وأورثتها حب التيار الناصري، ولكنها توفيت قبل ست سنوات، لتترك خلفها والدتها تعيش في شبه عزلة تامة عن العالم في بيتها المتواضع في عرفات.
المفتش والقيادي الناصري، سيدي محمد ولد اخليفة، لم تنقطع علاقته بالراحلة وكان يزورها باستمرار في السنوات الأخيرة من عمرها، يقول إنها «كانت سيدة استثنائية وقوية، ولكن رحيل ابنتها شكل صدمة، وتركها في حالة حزن كبيرة، ومع ذلك لم يؤثر على عزمها وصبرها وجلدها».
ويضيف ولد أخليفة أن «العمق الديني والثقافي لأسرتها، كان جليا في طريقة حياتها، فقد كانت سيدة محافظة وملتزمة، رغم تمسكها بقناعاتها السياسية».
الوداع
ترك رحيل بنت امياه حالة من الحزن لدى معارفها، وخصوصا رفاقها من التيار الناصري داخل موريتانيا وخارجها، فقد كتب عشرات المنتميين للفكر الناصري مقالات في وداعها.
رئيس جمعية لغة الضاد والشاعر محمد ناجي الإمام، الذي يعتبر من أبرز رموز التيار الناصري في البلاد، كتب على صفحته قصيدة في رثائها، كما كتب الصحفي الشيخ بكاي أن الراحلة «كانت أما للناصريين في السبعينات والثمانينات، وكان بيتها ملجأ لهم ولاجتمعات خلاياهم وللنقاشات السرية».
صفحة التيار الناصري الموريتاني على الفيسبوك كتبت أن الفقيدة تعتبر «من أقدم المناضلات في التيار الناصري، وجعلت من بيتها دار أرقم لأبناء التيار، يقيمون فيها كيف شاءوا، ينسجون خلاياهم بعيدا عن أعين رقباء النظام، ويخططون لكل نشاطاتهم».
ويضيف التيار أن «دورها لم يقتصر على ذلك، بل شاركت في الأنشطة الثقافية والسياسية، وكانت حاضرة بقوة في فعاليات الانتفاضة، خاصة التظاهرات رغم القمع والتنكيل والاعتقالات الواسعة في صفوف المناضلين».
وقدمت «إدارة الصفحة الرسمية لموقع جمال عبد الناصر» التعازي لجميع الناصريين في العالم العربي، ووصفت الراحلة بأنها أيقونة النضال الوحدوي و«أم الناصريين في موريتانيا».
برحيل بنت امياه، يسدل الستار على مرحلة مهمة من تاريخ موريتانيا الحديث، تاريخ كتبته سيدة غير متعلمة قادمة من بوادي موريتانيا، ولكنها قدمت لقناعاتها ما لم يقدمه كثير من الرجال، إنها كما وصفت نفسها: «كهلة الناصرية».