بمجرد أن نستفسر عن أوضاع حقوق الانسان في موريتانيا، نجـد أنفسنا مُنجذبين إلى متاهـة من الإشكـالات؛ فيمكننا أن نسأل أنفسنا أولا ما معنـى التبادل السلمي على السلطـة الذي حدث ابتداء من اغسطس 2019؟ وقـد يستــدعي هذا السؤال سؤالاً آخــر: هل كان لهذا التغيير آثار تضيء مسارات السياسات الحقوقية حتى يومنا هــذا؟، ولنكن أكثر دقـة : هـل تفطنتْ الفئاتُ المغبونـة لدينامكية السلطة القائمة تِجاهها؟ ومتى يستوعبُ دُعــاة التغييـر آثـار ومظاهــر التقدم الحاصـل؟ دعُونا لا نتوقف عند هذا الحـد من الاستفسارات التي تتعلق بالتحولات والبدائـل المرتبطة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافيـة، فنثيــرُ السـؤال الأخيـر المشْرُوع حــول النتائج المُنجزة مـن وراء سياسـات الاقــلاع الحكومي؟
استهــل الرئيـس محمـد ولد الشيخ الغزواني عهدتـه بخطــاب تصالــح واضـح المعالـم وموجه لما أطلق عليه صفـة «الفئات المغبونـة»! عندها، أصبـح بإمكان حكوماته المتتاليـة تسويق يوتوبيا حالمة حـول تصور مسألة العدالة الاجتماعية، فصمم الوزراء سياسات تنمويـة مستوحاة من برنامج «تعهــداتي» ويبدو جليا أن برامــج الإدماج والتشغيل والتكوين التي تولى مسؤوليتها الوزيـر الطالب ولد سيد أحمد عبرت سريعا عن التزامها بتشغيل 100 ألف شاب ممن استشرت البطالة بصفوفهم؛ وكذلك من الأهمية بمكان ان نأخذ بعين الاعتبار إعادة هيكلة مهام مندوبية «تآزر» التي خُصص لها غلاف مالي تجاوز 20 مليار أوقية جديـدة (552 962 956,29 دولارا آمريكيا) جلها موجه للمناطق الأكثر هشاشـة وحرمانا، وفــي سنة 2021 زادت مخصصات التعليم الأساسي والابتدائي بحيث زادت ميزانية القطاع بما يناهــز نسبة الـ20% من إنفاق الميزانيـة العامة للدولـة الموريتانية (تجمع الدول الأعضاء في اليونيسكو على معيار من 15-20% من الإنفاق العام و4-6% من الناتج المحلي الإجمالي) وهذه المعايير ليست جديدة لكن الجديد هو تعاطـي انواكشوط معها إيجابا. ومن المهم الاطلاع على القطاعات الاجتماعية الأخـرى كالصحة والشؤون الاجتماعية والقطاعات الريفية والزراعية والبيطـرة، ومع ذلك، يصعب تتبــع أنماط الإنفــاق الذي يستهـدف تلبية احتياجات الأكثر تهميشا وغبنا ضمن الإجراءات والسياسيات الحكومية الراهنة والمعلنة، فلا يزال من المُتعـذر على القطاعات الوزارية تصنيف المخصصات المالية طبقا للجهة المستفيــدة منها وفقا لعقلية راسخـة تستبد بالإدارة الموريتانية بحيث لا يمكن معرفـة الخصائص العرقية أو الطبقية للسكان، وبصورة صادمـة تُعيــق مثل هذه التصـورات السائـدة ـ والموروثـة عن الانظمة السابقة ـ تحليــل نجاعــة تـدخــلات «مندوبيــة تآزر» على سبيـل المثـال لفائــدة مكونـة لحراطين التي عانت تاريخيا من الإقصاء المادي والاجتماعي والتمييز الشديد، ونتيجة لذلك، يعيش غالبية المنحدرين من هذه الشريحـة في فقر مدقـع، أما أكثر من نصفها فهـو لا يجيد القراءة والكتابة. وفي الوقت نفسه يدرك الساخطون من بين الفئات المغبونـة أن تدخــلا إنسانيا قـد حصل وأن مبالغا ماليـة جــرى تسليمها للأفراد والأســر الأكثر خصاصـة في مختلف مناطق الوطن.
ليس من الوارد، أن يُلم هذا المقال الموجز بجوانب السياسات العمومية فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في موريتانيا ولكنه حتما يهتم بالمعاني السياسيـة للانتظارات والتطلعات التي عبر عنها الموريتانيون إبان تصويتهم للرئيس محمـد ولد الشيخ الغزواني (52% في الشوط الأول) والتي ساهمت «جائحـة كوفيد – 19» في خنق وتيرتها، والأمـر لا يتعلق فقـط بالظواهـر الصحيـة المفاجأة والمتزامنـة، بقدر ما يضعف من أثـر النتائج والمنجزات على الصعد المحلية والوطنية بسبب عقليـة إداريـة موغلـة في كثيــر من الأحيان في تغييب الجهات الحقيقية المعنيـة بأبعاد التنمية وبمعاني الارتقاء بالمواطـنين على حد سواء، عندما يتعلق بانتشال الأفراد والمجموعات التي تركت طويلا على قارعـة الطريق، فبالكــاد، يستطيــع المهتمـون بنجاعـة العملية (مجتمع مدني، وهيئات تعاونية) إدراك المغزى الحقيقي للأهــداف المعلن عنها من قبل الحكومات بسبب مواصلة عقلية الاستفراد بجوانبها المختلفة.
ومن اللائق جدا، إبراز جوانب نجاح الحكومة على مستوى مفوض حقوق الانسان والعمل الإنساني السيد حسنة ولد بوخريص في تحضير مساءلة موريتانيا خلال جولات الاستعراض الدوري الشامـل (UPR) بجنيف، فبالرغــم من صُـدور العشرات من التوصيات الموجهة إلى الحكومة الموريتانية بهدف تطوير وتعزيز أوضاع حقوق الإنسان داخلها (مسألة اللاجئيــن، قوانين الجنسية والحريات الدينية ومسألة الإرث الانساني وملف الاستعباد.. الخ ) فإن الجولة جرت في ظروف جيــدة وبدون ضجيــج كما كان معتادا فالتقارير البديلة قدمت بكل احترافية ولم تحصـل أبـدا عمليات «الشــوشـرة» التي ظلت سلوكا يطبــع منتديات حقوق الإنسان بجنيف كلما قدمت موريتانيا تقاريرها، ولربما يعود الفضـل في ذلك إلى المقاربة الذكية المتبعة من قبل المفوض السابق من ناحيـة الانفتاح على هيئات ومنظمات حقوق الإنسان.
وبشكل مستعجل نعرضُ بعض النجاحات والإخفاقات المعاشة والملاحظة.
- المسألــة العقاريــة وسياسات الإسكان
أخيرا حقق ممثلو الساكنة الأصلية لبلدة دار البركـة (لبراكنه) إنجازهم التاريخـي الكبيـر والذي جاء على شكــل تسوية وديـة، فعلى ضوء هــذه التسوية خاطب وزيــر الشؤون الاقتصاديـة وترقيـة القطاعات الانتاجيـة عثمان ممادو كَانْ سكان البلدية اللذين خاضوا صـراعا مريــرا منذ 2009 من أجــل إشراكهم في تدبير أرضهم قائلا «لا يمكن استجلاب مستثمرين بدون موافقـة مسبقة من السكان المحليين». ومن المفيد مقارنـة أداء الحكومة في هذه البلــدة الصغيـرة، ومواصلـة صمتها الطويل عن الحيف الممارس على ساكنــة المناطق الخصبة في شمامة، وآفطـوط وعلى طول مجرى نهر السنغال حيث تتفاقــم ظاهــرة سحب الأرض من تحت أقدام المزارعيــن الأصليين، بعـد ظهــور مــلاك جـدد يزعمون حقوقا قبلية وعائلية في الأرض، ولا تتوانى الإدارة عن إصدار الوثائق المؤكـدة لهذا الوضـع المربك حقا.
يُعد المأوى والسكن اللائق، أحد مُقومات التمتــع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية التي يتطلع إليها المواطنون لاسيما الفئات الأضعف، وعلى هذا الصعيــد تطرح مسألة «لكزر» تحديات جمة أمام قطاع الإسكان؛ فالمُـدن تتمـدد على مدى الأفــق كاشفــة عن مزيد من أحزمة البؤس والفقـر والحرمان الذي يستبـدُ بشرائح واسعـة من الموريتانيين، ولا يطرح الحصول على السكن الاجتماعي إشكالا كبيرا نظرا لعدم معرفــة ساكنة العاصمة بمثل هذه الرؤى ولكن تتزايد بوتائر تصاعديـه مشكلة النزاعات على حيازة القطـع الأرضية مهددة بذلك مستويات السلم الأهلي ومؤدية إلى مزيــد من الاحتقان الاجتماعي في ظــل ريبة الفئات المستهدفة من الإدارة المحلية، وشكوكها في نزاهـة تدخلاتها، ومع ذلك يلزم الإقرار بنجاعــة مقاربات وكالة التنمية الحضرية التي تقودها الإطار الشاب السيـدة ميمونة أحمد سالم فيما يخص معالجــة الملفات المعروضـة عليها (حصل ما يناهز 98% من الأسر على قطـع أرضية في أماكنهم الأصلية بمقاطعة توجنين، على سبيل المثال).
ويظــل هاجــس تقليـص فجـوة السكن موجـودا ضمن مُخططـات «تعهداتي» حيثُ ورد التزام ببناء 10 آلاف وحـدة سكنيـة طيلة سنوات المأمورية الخمسـة، وينتظــر المواطنون معرفــة معايير انتقاء المستفيدين منها ومع أن الحكومــة تسعى إلى تحقيق هذا الالتزام الرئاسي فقد مرت سنتان دون ظهور بوادر ملموسـة على تحقيقه، دون إغفــال إعلان مندوبية «تآزر» عن إطــلاق برنامج «داري» السكني الذي وعــد بإقامة 1700 وحدة سكنية بهدف تيسير ولوج مختلف الفئات الاجتماعية إلى مساكن لائقة.
عمليا، وحده السيد سيد أحمد ولد محمــد من بين أعضاء الحكومة من يتحدث بمرجعية قانونية واضحـة «هي ملامح بناء دولة تسع الجميع.. نعم لا نرضي لكم العيش في ظروف غير مقبولة، لكن لن نرضي بتجاوز القانون، وعليكم أن تدركوا أن هذه الأرض ملك للدولة، تهبها لفلان وتصرفها عن فلان حسب معايير شفافة وواضحة»، وبهذا المنطق السليـم بدأت الحركيـة تدب في قطاع الإسكان، وإذا قُدر لهذا الإطــار الكفوء مواصلة سياساته الإصلاحية داخل قطاعه فإن مزيــدا من الساحات العمومية سيتم إخلاءها مما يعني أن رئة الأحياء السكنية ستجد فضاءات تتنفس داخلها.
- انبثاق الخطابات الجهوية وانحسار الخطابات الفئوية
تميـز رئيس الجمهورية محمـد ولد الشيخ الغزواني بفضيلة الاستماع الجيـد لمخاطبيـه، وربما يكون بذلك قد ساهم في إطفاء أوار الخطابات المتشنجة والتي كان يذكيها سلفه بل ويساهــم فيها كلما خفتت أو تراجعت (خطاب الإســاءة للحراطين في النعمة 2016)، فقــد ساهم وصوله بتغيير حدة اللهجة الحقوقية وتوجيهها إلى ما هو أهم وأكثر مبدئيـة وخاصــة ما يتعلق بتوصيف السلوكيات ذات المغزى العنصري أو التمييزي الصارخ وتفضيـل حركات حقوق الإنسان القضاء كجهة مخولة لها معاقبـة المتورطين بخطاب الكراهية بدل مواجهتهم بنفس القـامُـوس بعد اتخاذ شبكات التواصل الاجتماعي (صوتا وكتابة، وصورة أحيانا) كجهـة مفضلة لتصفية الحسابات، ومهما يكن القضاء متراخيا مع مثل هذه التصرفات فإنه يبقى الوجه الأنسب، ومن المناسب القول كذلك بأن تراجع هذه التوجهات لا يعني البتة أن مشاعــر الإقصاء أو الحرمان قـد تلاشت أو تبددت، ولكن يؤمل منه انبثاق خطاب حقوقي راشــد وواقعي، لذلك وجب التنبيه. تماما كما يجب الحذر من الدعوات التي تستبطن المزاعم الجهويـة والانفصالية لما لها من خطر على وحدة الكيان الموريتاني بصفة عامة.
- عن التمييز الإيجابي للفئات والمناطق اتحدث..
عكف الرئيــس معاوية ولد سيد أحمد الطايع في بدايات حكمه على سياسات تربوية سلبية تجاه ولايـة الترارزة وهو ماجــر نقمة أعيان هذه المنطقة واستياءهم الشديــد جراء ما اعتبــروه إبطاء متعمدا لتفوق أبناء الولايـة على المستوى الوطني، وتحين أحـد الوجهاء إحدى الزيارات الكرنفالية لمقاطعة المذرذرة لكي يظهر لسيادته تضرره المحقق وقدم له كشوفات نقاط لأختين شقيقتين إحداهما تتسابق في انواكشوط والثانية من المذرذرة للحصول على شهادة الدروس الابتدائية، نجحت الأولـى بمعدل بسيط ورسبت الثانية رغـم حصولها على معدل يفوق نظيرتها، فـانتهز الرئيس معاوية السانحـة للتأكيــد على أنه ينتهج سياسات تمييز إيجابي لفائــدة المناطق والولايات التي يشهد أبناؤها تعثــرا تربويا يعيق لحاقهم بالمستويات التعليمية لتلامذة المدارس الابتدائية بالترارزة، وبأن الفكــرة مؤقتة وستمكن من الحصول على نتائـج مبهرة وسريعة. عندها انفتحت أسارير الوجيــه المذكــور وهو يومئ لرئيسه بأنه يتفهـم إلى حد بعيــد هذه السياسات الملهمة ولكن لديه رجاء واقتراح، ووقف الرئيس معاويــة يستمع لاستطــراد مخاطبه ليتفاجأ به يقول «سياستكـم هذه لا مثيل لها وهي سديـدة، على كل حال، .. ولكن هل يمكنكم توسيعها لتشمل التوزيــع العادل للثروات الوطنية فأخــي يملك محلا تجاريا صغيـرا (بنطـرة) وهــو يتــوق لأن يصبح تاجرا ناجحا وثريا مشهورا تماما كما هـو الحال مع مجموعة أهل انويكظ!..» وتحول اللقاء إلى فرصة للتندر والتضاحك، ولكنه في الواقـع، مثل نقاشا راقيا بين مواطن ورئيسه، فكلاهما يملك تصورا عميقا وصادقا فرئيس الجمهورية آنذاك يحس بالمسؤولية عــن تأخــر قاعــدة واسعة من مواطنيه عن التمدرس وهــو يمارس لفائدتهم سياسـة تمييز إيجابي. وأما المواطــن فهو يستشعر مسؤولية الدولة فيما يتعلق بالثروات الوطنية وتفريطها بتوزيعها بعدالـة على المناطق فيما يمكن أن نسميه الآن «حيفا مجاليا» لا تزال مناطق واسعة تشكو من آثاره. تتناقــل على نطاق واســع مقولة «لا تستلم عند منتصف الطريق ، لابد أن تركز على أن تربح النصف الثاني».
________
عبيــد أميجـن، رئيس منتـدى الأواصر للتحاور (FED) وعضـو الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب (MNP)