دخلت دولة مالي فصلا جديدا من فصول عدم الاستقرار، بعد تمرد عسكري على السلطات الانتقالية إثر تعيين حكومة جديدة، أطاحت بعقيدين قادا انقلابا عسكريا قبل عشرة أشهر فقط، أحدهما تدرب في روسيا والآخر في الصين.
مالي التي استقلت عام 1960 عن فرنسا، وبقيت تربطهما علاقات قوية، تحولت منذ 2011 إلى ساحة حرب خفية بين استخبارات العالم، ودفعت ثمن ذلك من أمنها واستقرارها ووحدتها الترابية، ومؤخرًا وصل الداء إلى رأس السلطة.
يوم 18 أغسطس 2020، خرج الجيش من ثكنة «كاتي» العسكرية وألقى القبض على الرئيس إبراهيم ببكر كيتا ووزيره الأول بوبو سيسي، أرغم الأول على الاستقالة أمام الكاميرا، مقدما بذلك «حلا مؤقتا» لأزمة سياسية استمرت لسنوات.
واجه الانقلاب رفضا إقليميا ودوليا، وتعرض قادته لضغوطات كبيرة أرغمتهم على التنازل وتقاسم تسيير المرحلة الانتقالية مع المدنيين، فاختاروا العسكري المتقاعد باه انداو (70 عاما) لرئاسة المرحلة الانتقالية، محتفظين بمنصب نائب الرئيس وأغلب مقاعد الحكومة، فيما كان الوزير الأول مدنيا هو مختار وان.
تتداول الأوساط السياسية في مالي أن مختار وان سبق أن كتب استقالته عدة مرات بسبب الضغوط، وكانت آخر استقالة له الأسبوع الماضي، ولكن الرئيس الانتقالي جدد له الثقة وكلفه من جديد بتشكيل حكومة أخرى.
إلا أن الرجل ذو الملامح «الطفولية» الهادئة ونظاراته الطبية الرقيقة، حين شكل حكومته قرر أن يسقط منها اثنان من الرؤوس الكبيرة لانقلاب أغسطس الماضي، خطوة حملت مخاطرة كبيرة، فمن هما الرجلان اللذان يقفان اليوم في قلب العاصفة ويرفضان الانحناء ؟
كامرا «الروسي»
إنه العقيد صاديو كامرا، أحد الوجوه العسكرية التي برزت في انقلاب 18 أغسطس 2020، يوصف بـ «الروسي» منذ عودته من تدريبات عسكرية تلقاها العام الماضي في روسيا.
وصف العقيد كامرا إبان انقلاب أغسطس الماضي بأنه «الرجل القوي» الجديد لدولة مالي، وأنه هو «العقل المدبر» للانقلاب، ليحمل حقيبة الدفاع الوطني في الحكومة الانتقالية، وهي وزارة استراتيجية هامة.
ولد صاديو كامرا عام 1979 في «كاتي»، على بعد 15 كيلومترا إلى الشمال من العاصمة باماكو، وهي المدينة التي توجد بها أكبر وأشهر ثكنة تابعة للجيش المالي، ومنها انطلقت أغلب الانقلابات العسكرية الناجحة في مالي.
تخرج «ابن كاتي» من المدرسة العسكرية متعددة الأسلحة في كوليكورو، وتقول سيرة ذاتية كتبها أحد أنصاره إنه كان «الأول على دفعته»، ويضيف كاتب السيرة إنه قاتل في الشمال إلى جانب الجنرال الهجي غامو، واحد من أشهر قادة الجيش المالي وأكثرهم قسوة وقوة في مواجهة الحركات المتمردة من الطوارق والعرب.
عاد صاديو كامرا إلى باماكو عام 2012، حين سيطرت الحركة الوطنية لتحرير أزواد وتنظيم القاعدة على أغلب مناطق الشمال، وكان من داعمي انقلاب 2012 على الرئيس أمادو توماني توري، ولكنه لم يكن في الواجهة، بحكم رتبته.
بعد عودته من الشمال، إثر هزيمة الجيش أمام القاعدة، اكتفى «كامرا» بمنصب إداري، فكان المدير العام للأكاديمية العسكرية في «كاتي»، ولأكثر من 8 سنوات طور شبكة علاقات داخل «كاتي»، وصنع سمعة في أوساط الجنود والضباط.
في شهر يناير من عام 2020 توجه العقيد صاديو كامرا إلى روسيا في إطار تدريب عسكري، ليعود مطلع شهر أغسطس 2020 مستفيدا من عطلة مدتها شهر، ولكنه لم يحتج سوى لأسبوعين حتى ظهر اسمه في انقلاب عسكري أطاح بالرئيس «كيتا».
وجود العقيد لأشهر في روسيا وعودته ليقود الانقلاب، ذهبت بعدد من المتابعين إلى الاعتقاد بأن الانقلاب حضر له في المطابخ الروسية، خاصة في ظل موجة العداء المتصاعدة ضد فرنسا، ورفع الأعلام الروسية خلال المظاهرة التي شهدتها مالي قبيل الانقلاب. ولكن لا وجود لما يثبت التورط الروسي في انقلاب العام الماضي.
كوني «الصيني»
إن كان بعضُ الماليين يتحدثون عن العقيد «الروسي»، فإن صديقه ورفيق سلاحه العقيد موديبو كوني هو الآخر تدرب في «الصين»، وها هو اليوم يقف رافضا الانحناء أمام العاصفة، فيما يوصف بأنه صراع أجنحة داخل الجيش المالي، وصراع أكبر بين الجيش وقوى مدنية منهكة.
العقيد موديبو كوني من مواليد 1977 في العاصمة باماكو، عاش بدايات مراهقته على وقع انتفاضة الشعب المالي ضد نظام الرئيس موسى تراوري (1991)، وشاهد كيف ركب الجيش مظاهرات الشارع لقلب نظام الحكم.
حصل الشاب كوني على شهادة الباكالوريا عام 1999 من الأكاديمية العسكرية في «كاتي»، ليدخل نفس العام المدرسة العسكرية متعددة الأسلحة في كوليكورو بمالي، نفس المدرسة التي تخرج منها «صاديو كامرا».
ربما يتشابه إلى حد ما مسار الرجلين، بداية بنفوذهما داخل الحرس الوطني، ودورهما المحوري في انقلاب أغسطس الماضي، ولو أنهما لم يتصدرا المجلس العسكري، بينما عين الأول وزيرا للأمن والحماية المدنية، فيما عين الثاني وزيرا للدفاع الوطني.
حسب السيرة الذاتية الرسمية للعقيد موديبو كوني فإنه خلال الفترة من 2009 وحتى 2015 تلقى تكوينات عديدة، من أبرزها دورة ضابط حرس خاص في الصين، ودورة أخرى في قيادة الأركان عام 2014 في كوليكورو بمالي.
أما المسار المهني للعقيد فقد بدأ بشكل رسمي حين كان قائدا لسرية (CDT) من 2008 وحتى 2012، ثم قائدا لتجمع الحرس الوطني في (خاي) من 2012 وحتى 2016، وهي المهمة التي غادرها ليرأس مركز القيادة التكتيكية في (كورو)، منصب سيبقى فيه حتى انقلاب أغسطس 2020.
السيرة الذاتية التي نشرت بعد تعيينه وزيرا في الحكومة الانتقالية، لم تخلُ من الدعاية، حين تقول إنه شارك في العديد من المعارك والعمليات العسكرية، قبل أن تضيف أنه «يحب الموسيقى ويمارس الرياضة».
العاصفة !
أمس أعلنت الحكومة الجديدة للوزير الأول مختار وان، كانت فيها مفاجأة كبيرة، لقد خرج منها العقيدان، ولكن مقاعدهما في الحكومة أسندت إلى جنرالين أكثر منهما تجربة وأعلى رتبة؛ الجنرال سليمان دوكوري تسلم حقيبة الدفاع، والجنرال ممادو لمين بالو تسلم حقيبة الأمن.
لم يعجب ذلك قادة الانقلاب، ورأوا في خطوة الوزير الأول التي وافق عليها الرئيس الانتقالي، محاولة للانقلاب عليهم، فقرروا استعادة السيطرة على الوضع، بنفس الطريقة التي نفذوا بها انقلاب أغسطس الماضي.
أوقفوا الوزير الأول ثم الرئيس، فوزير الدفاع، وتوجهوا بالجميع إلى ثكنة «كاتي» العسكرية، في موكب شبيه بالموكب الذي قاد الرئيس السابق «كيتا» ووزرائه إلى نفس الثكنة قبل عشرة أشهر فقط.
ولكن مياه كثيرة مرت من تحت جسور باماكو، غيرت التوازنات وبدلت الأوضاع، ما يجعل محاولة العقيدين إرغام الوزير الأول على الاستقالة، صعبة التحقق، فيما يبقى إخراج العقيدين من المشهد أمر لا يقل صعوبة.