بيني وبين عثمان العمير صداقة قديمة تعود لأكثر من ثلث قرن من الزمن. صداقة ثابتة وعميقة قوامها قدرتنا معا على قبول الخلاف وتجاوز الاختلاف وتلك سجية مغروسة في طبع عثمان اكتسبها من حياته الطويلة العريضة الصاخبة في بلاد الانجليز.
وسواء حين يركب العمير ناقته البحرية الحديثة المسماة “ناقة لندن” ويبحر بها صيفا في المتوسط، جاعلا من هذا اليخت مركوبه الجوال على موانئ صغيرة، وحاله كحال الفيلسوف طاليس البحار الباحث عن الحقيقة، أو حين يعود الى شقته الواسعة في لندن التي تقع غير بعيد من المبني العتيد “بوش هاوس” التي عرفت اكثر الاذاعات المسموعة في العالم العربي، أو حين يجلس وقت الغروب تحت ظلال النخيل في بيته بمدينة مراكش، فانك تظل تواجه نفس الرجل الذي قاد أحد أكبر المغامرات الصحفية في العالم العربي وأكثرها نجاحا،وأطولها عمرا، وأعمقها غورا، وأشدها تأثيرا على صناع القرار وقادة الرأي، مدشنا بذلك العصر الذهبي للصناعة الصحفية حين كانت صحيفة “الشرق الأوسط” تطبع في كل من لندن وباريس ونيويورك والرياض والدار البيضاء والقاهرة وبيروت.. وعواصم أخرى، وتوزع وتقرأ في نفس الوقت في بقية العالم العربي وكبري عواصم العالم.
لقد قضى عثمان بمغامرته الشرق أوسطية، التي أطلق شرارتها من لندن، على صورة نمطية طالما جهد اليساريون العرب من أجل الصاقها بالمثقف السعودي وذلك باعتباره مثقفا هامشيا مستهلكا على الدوام لما ينتج في مركز الثقافة العربية أي مثلث القاهرة -بيروت -دمشق.
ولم يكتف عثمان بتحطيم تلك الصورة فقط بل قام بزحزحة ذلك المركز وجعل “الشرق الاوسط” هي نفسها نقطة مركز الصحافة العربية، التي تجذب اليها كل صحفيي الهامش والمحيط، فاتحا بذلك ابوابا في جدار القلعة التي اغلقها بعض العرب ضد بعضهم الاخر في بلاط صاحبة الجلالة فكان الحدث الموريتاني والمغربي والتونسي والسوداني يجد طريقه للصفحة الاولى، وكنا نحن ابناء الهامش ننافس اهل المركز القديم على الكتابة في الصفحة الاولى، وتغطية الاحداث الكبيرة ، لا فضل لأحدنا على الآخر عند عثمان إلا بصحة المعلومة وطرافة الموضوع ، وعمق التحليل وسلامة النص معنى ومبنى.
الكثير يمكنك كتابته عن عثمان في مرحلته الشرق الاوسطية، وتأثيره الناعم في أحداث العالم العربي السياسية والاعلامية والثقافية من خلال آرائه التحديثية الجريئة التي كان يعبر عنها بقلمه الأنيق أو من خلال خياراته التحريرية العامة. وهو تأثير يقاسمه معه عبد الرحمن الراشد ، الذي خلفه في رئاسة تحرير جريدة العرب الدولية.
وإذا كان العمير هو المؤسس الأول للصحيفة (مؤسس الاشعاع)، فإن الراشد هو المؤسس الثاني، ذلك أن “الشرق الأوسط” في مرحلتيها العميرية والراشدية عرفت أوج اشعاعها وازدهارها بما جذبت اليها من كتاب عرب وعالميين، كما خرج من جلبابها الواسع صحفيون وإعلاميون شباب هم ابناء الجيل الجديد الذي يتولى اليوم صناعة الصحافة والتوجيه، ويخوض معركة الرأي والرأي المضاد، ليس في المملكة السعودية فقط بل في جل دول العالم العربي.
لكن العمير، هذا السعودي القادم من قلب الصحراء، من الزلفي غير بعيد عن الرياض، لا يزال قادرا على إبهارنا بقدرته الفذة على تجديد نفسه، وخوض مغامرات ابداعية جديدة، واخراج ابتكارات تواكب تطورات العصر المتسارعة.
فبعد أن طلق الصحافة الورقية بالثلاث، أسس عثمان صحيفة “إيلاف”، وهي أول جريدة عربية الكترونية تلج باب الإعلام المستقبلي يتم تحريرها من لندن وباريس وامستردام والرباط ودبي، وتتجدد كل ساعة، وتأتيك بالاخبار من لم تزود.
عرف عثمان في “إيلافه” كيف يجمع العائلة على مصدر واحد فكان الرجال يقرؤون فيها أخبار السياسة والنساء والفن، بينما يبحث فيها المراهقون عن جديد التكنولوجيا وآفاق المستقبل.
لم يكن الكثيرون يعيرون هذا الوافد الاعلامي الجديد حقه. فالانترنت كانت جديدة لكن عثمان بقي زرقاء اليمامة في العمل الصحفي، اذ رأى ما لم يراه الآخرون، فكان الفراق مع الورق، وعقد قرانه على “إيلاف” التي تحتفل اليوم بربيعها العشرين، ورغم أنها ما زالت في عمر الشباب وعنفوان المراهقة إلا أنها مع ذلك تحمل حكمة الشيوخ.