مئات المواطنين الموريتانيين، تتقدمهم حرم رئيس الجمهورية وجمع من الوزراء والنخبة السياسية والثقافية، تجمعوا لمتابعة أول عرض في البلاد لفيلم «الموريتاني»، أول فيلم عالمي يحمل اسم بلدهم.
غابت قاعات السينما في العاصمة نواكشوط، فلجأت وزارة التجارة والسياحة لقاعة قصر المؤتمرات، وجعلت منها قاعة عرض احتفاء بأول عمل سينمائي عالمي يقدم اسم «موريتانيا» إلى العالم، رغم مأساوية القصة.
حاول الفيلم أن يحكي قصة ظلم محمدو ولد الصلاحي، السجين السابق في معتقل غوانتانامو سيء الصيت، ما بين 2002 و2016، بعد أن سلمته بلاده للاستخبارات الأمريكية التي تجولت به في معتقلاتها السرية في الأردن وأفغانستان، قبل أن يستقر به المقام في جزيرة كوبا، حيث يوجد معتقل غوانتانامو.
مئات الموريتانيين كانوا يتطلعون لمشاهدة الفيلم الذي يحكي قصة ظلم تابعوها لسنوات طويلة عبر وسائل الإعلام، ولكن سببًا خفيا كان يدفعهم، وهو الرغبة في مشاهدة فيلم أمريكي يتحدث عن بلدهم.
حضر العرض مخرج الفيلم البريطاني كيفن ماكدونالد، مع بعض أفراد عائلته، بالإضافة إلى محمدو ولد الصلاحي وبعض الممثلين الموريتانيين الذين ظهروا في بعض لقطات الفيلم.
تأخر عرض الفيلم عن الوقت المحدد قرابة ساعتين، كان خلالها الجميع يلتقطون الصور ويتابدلون المجاملات والأحاديث الجانبية، يقول نجل المخرج البريطاني: «لقد أحببت رمال شنقيط، وعشقت شواطئ حوض آرغين».
الفتى كان يرتدي دراعة موريتانية، ويحاول الذوبان في ثقافة بلد لم يكن ليعلم به لولا أن والده يعمل مخرجًا، واختارته البي بي سي ليكون مخرج عمل سينمائي مشترك بين البريطانيين والأمريكيين.
أمام الترقب والانتظار الطويل، كسر محمدو ولد الصلاحي الرتابة حين قال: «كم أتمنى لو كانت والدتي بيننا لتشاهد هذا الحدث العظيم»، مستذكرًا والدته التي ظلت حاضرة طيلة مسار الفيلم، كما كانت محور قصة الألم التي عاشها، وتوفيت قبل أن ينال حريته.
كانت كلمة ولد الصلاحي مقتضبة وملهمة، اختزل فيها معاناته مع الاعتراف بـ «الجميل» لكل من سانده، والعفو عن من «أخطأ في حقه»، وسط تصفيق الجمهور الذي وقف احترامًا لسجين عرف كيف يسامح سجانيه.
وزيرة التجارة الناها بنت مكناس شكرت الحاضرين لمتابعة «واحدة من قصص الظلم المؤثرة التي حصلت في الواقع، وتحولت إلى عمل ادرامي ممتاز»، وقالت إن هذا الفيلم «يجب أن يمثل بطاقة عبور لبلادنا، وللتعريف بصورتها السمحة عبر كل المنصات والشاشات الدولية، ليتعرف العالم أكثر على موريتانيا».
لا يقدم الفيلم الكثير عن موريتانيا، سوى لقطات مبعثرة على طريقة «الفلاش باك»، ما أصاب بعض الحاضرين بالإحباط، لأن سقف توقعهاتهم كان كبيرا، وكانوا يتطلعون لمشاهدة فيلم يحكي قصة «موريتانيا».
ولكن ما جهله الموريتانيون المحبطون هو أن الفيلم الذي كلف 14 مليون دولار أمريكي، وأنتجته ثلاث جهات هي (30West، Topic Studios، BBC Film)، كان موجهًا بالأساس إلى الجمهور الأمريكي والبريطاني، ولم يكن استثمارًا موريتانيا ولا علاقة له بموريتانيا سوى الاسم وبعض فقرات القصة، وهي الفقرات الأقل أهمية.
كما أن الفيلم يصنف ضمن فئة أفلام «الدراما القانونية»، وهي فئة مملة بالنسبة للكثير من متذوقي السينما، لأنها تعتمد في قوتها على الكتابة والحوار، وهما المحوران اللذان كان الفيلم يحمل بعض الضعف فيهما، حسب العديد من النقاد.
حاول الفيلم أن يبني قصة ولد الصلاحي انطلاقا من كتابه «يوميات غوانتانامو»، بل إنه كتب في البداية عبارة «هذه القصة حقيقية» ولم يقل إنها «مقتبسة من قصة حقيقية» على غرار العديد من الأفلا المشابهة، وربما ساهم ذلك في إضعاف الفيلم مقارنة بالكتاب، حين غاب عنه هامش التخيل والتشويق.
اثار الفيلم النقاش بين النقاد، على مستوى العالم، وكانت أغلب التقييمات إيجابية، خاصة فيما يتعلق بأداء طاهر رحيمي وجودي فوستر، ولو أن بعض النقاد انتقده بشدة، خاصة فيما يتعلق بعجز الفيلم عن مجاراة قوة قصة ولد الصلاحي، فتخللته قفزات درامية غير مبررة، حتى أن الخطان الزمنيان المتعلقان بالمعركة القانونية كان تطورهما غير متوازن، فقدمت جودي فوستر أداء مبهرا في دور المحامية نانسي هولاندير، بينما كان أداء المخضرم بنيديكت كامبيرباتش دون مستواه المعهود في أفلام أخرى.
مثل الكشف عن تعذيب محمدو ولد الصلاحي ذروة تصاعد الأحداث في الفيلم، ونقطة التحول في القصة، وهنا كانت واحدة من نقاط ضعف الكتابة، فالمفاجأة التي شاهدناها على وجهي جودي فوستر وبنيديكت كامبيرباتش وهما يكتشفان محاضر التعذيب، لا تتماشى مع السمعة السيئة لمعتقل غوانتانامو الذي كان كل مواطني العالم يعلمون حجم الفظائع التي ترتكب داخله.. هنا كانت مغالطة للمتلقي مثلت نقطة ضعف كبيرة في مسار تطور القصة.
في المقابل كان حديث طاهر رحيمي في دور محمدو ولد الصلاحي أمام المحكمة مؤثرًا وقويا، وأداء رائعا ومبهرا، في ذلك المشهد استطاع رحيمي أن يستعيد البطولة من فوستر التي اختطفتها منه طيلة الفيلم.
كانت لقطات التعذيب قوية، ولكنها ظلت أقل من الحقيقة في واحد من أسوأ بقاع العالم، وجعلت الموريتانيين المحبطين يندمجون مع الفيلم، فيما سأل أحدهم بصوت خافت: «ترى ما إحساس محمدو وهو يتابع تجسيد تعذيبه، وهو الشاهد الوحيد على الحقيقة البشعة».
سؤال لن يجد أي رد من رجل قرر أن يلقي الماضي خلف ظهره، وأن يسامح الجميع، وظهر في اللقطة الأخيرة وهو يغني ويرقص، ويضحك.. ويسامح سجانيه.