عندما استقبلت نواكشوط عام 1963 أول وفد من المشرق العربي يرأسه الوزير المصري نبوي المهندس، كانت جماعة صغيرة من الشباب تنشد بحماس أمام ضيوف القرية الصغيرة الأناشيد القومية الحماسية، معتبرة المناسبة حدثا استثنائيا يستحق الاحتفال والتخليد.
كان من بين قادة المبادرة شاب طويل القامة، نحيف الجسم، قادم من الحوض الشرقي يدعي أحمد ولد الوافي، قدم إلى عاصمة الدولة الجديدة مع استقلالها ،بعد المرور بمعهد ابوتلميت الذي كان الفرصة الوحيدة المتاحة للشباب الذي لم تتم له إمكانية دخول المدرسة الفرنسية.
ومع أن الفكر العروبي لم يكن قد انتشر أوانها في موريتانيا، ولم يكن يتجاوز الوعي القومي نضالات حركة النهضة التي أسسها الزعيم بوياكي ولد عابدين واحمد بابا ولد احمد مسكة وجهود نقابة المعلمين العرب، إلا أن أحمد الوافي وزملاءه استطاعوا التقاط الكثير من الأفكار القومية الجديدة من خلال إذاعة «صوت العرب» وبعض المنشورات التي كانت تتسرب من الجالية اللبنانية والسورية في دكار.
كان طموح أحمد الوافي الأقصى هو أن تتاح له فرصة الذهاب إلى مصر والدراسة في مدارسها والتعرف عن قرب على المشرق الثوري الذي كان شديد الشغف به.
وقد أذنت الفرصة عام 1964 عندما كان ضمن أول فوج من الطلاب الموريتانيين الذين استقبلتهم مصر وهو في مجملهم من شباب المحاظر الذين لم يدخلوا إلا لماما قاعات الدرس الحديثة.. في القاهرة درس أحمد الوافي الثانوية واجتاز بنجاح سنوات التعليم ودخل الجامعة في قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
إلا أن الدراسة لم تكن شغله الوحيد، بل إن العمل السياسي نافسها بقوة، فكان الشاب النشط حاضرا مشاركا في كل المواقع والمنتديات: من التنظيمات الطلابية والنوادي الثقافية إلى حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة.. وقد أدى به هذا النشاط إلى الاعتقال في سنوات حكم الرئيس السادات الأولى فأبعد إلى المغرب وفي الرباط أكمل تكوينه الجامعي في العلوم السياسية.
تزامنت عودة أحمد الوافي إلى الوطن مع أوج الحركة الاحتجاجية الشبابية، وكان من داعميها، وقد حافظ على علاقات قوية مع كل الزعامات القومية واليسارية دون تفريق أو تمييز، وظل شخصية إجماع وطني بالنسبة لكل مكونات التيار الشبابي المعارض.
بيد أنه في الوقت نفسه اضطلع بمهمة ريادية غير مسبوقة تمثلت في توطيد الصلة بالمؤسسات الاستثمارية والمالية العربية التي كانت العون الأساسي للبلاد أوانها في مرحلة استعادة السيادة على الاقتصاد الوطني بعد إنشاء العملة المحلية وتأميم شركة ميفرما.. كان أحمد الوافي في كل الوفود التي زارت أوانها المشرق العربي طلبا للدعم الاقتصادي، وكان دوره فاعلا في جلب الاستثمارات العربية في القطاعات المنجمية والمصرفية والزراعية، وقد تولى في هذا السياق تأسيس وإدارة شركة ساميا وصندوق التنمية، وعمل على اكتتباب وتكوين الكثير من الكفاءات الوطنية التي أصبح لها من بعد شأنا هاما.
ومع أنه تولى بالإضافة إلى المرحوم سيد أحمد ولد ابنيجارة تنسيق الجناح المدني في حركة 10 يوليو 1978، إلا أنه رفض تولي أي منصب سياسي قيادي، وكان يريد أن تكون عملية التغيير قوة دفع لإعادة تأسيس البلاد وفق أجندة إصلاح شامل وجامع.. وقد تحسر على فشل مشروع التغيير، ودفع ثمن هذا الفشل اعتقالا تعسفيا وإقامة جبرية ومنفى خارجيا.
في بداية الثمانينيات، هاجر أحمد الوافي إلى السودان موظفا في إحدى الهيئات الزراعية العربية، قبل أن يعود إلى أرض الوطن مع انقلاب 12 ديسمبر 1984، ويتولى إدارة أول مكتب إقليمي تابع للجامعة العربية في موريتانيا هو مكتب المنظمة العربية للتنمية الزراعية.
ومع أن المكتب مجرد وكالة فنية إقليمية، إلا أنه حوله بجهده الشخصي إلى مؤسسة ديبلوماسية كاملة إلى حد أنه أصبح دائرة التنسيق الأساسية بين السفارات العربية، وكان أحمد الوافي بالفعل سفير كل العرب في موريتانيا بقدر ما هو سفير موريتانيا الأول في العالم العربي، وكان عضوا نشطا في جل المنتديات والمؤسسات الأهلية العربية من منتدى الفكر العربي في عمان إلى المؤتمر القومي العربي في بيروت.
مع بداية الانفتاح الديمقراطي، أسس احمد الوافي مع عدد من أصدقائه وبعض الجامعيين والمثقفين منتدى فكريا حرا أطلق عليه «منتدى الفكر والحوار» سرعان ما أصبح ناديا ثقافيا مرموقا بنشاطاته الحوارية الكثيفة وندواته العديدة ومكتبته الفكرية العامرة، وفي إطاره نظم زيارات لأبرز المفكرين والكتاب العرب.
برحيل أحمد الوافي ومن قبله صديقه الملازم محمد يحظيه ولد بريد الليل تطوى صفحة هامة من مسار الفكر القومي والعمل السياسي العروبي في موريتانيا.