في وقت قريب وبالذات منذ أربع سنوات كانت النقابة المستقلة لأساتذة التعليم الثانوي المشهورة باختصارها الفرنسي(SIPES) تسجل ملحمة نضالية رائعة تتحدى التجاهل والتصامم الذي ينتهجه النظام حينئذ إزاء عريضتها المطلبية، وكان إضراب الخمسة والأربعين يوما ختاما مسكا لذلك النضال في تلك السنة، وبدلا من انتهاج الحوار والبحث عن حل لمطالب الأساتذة سلكت وزارة التهذيب الوطني ساعتها منهج الاستغناء عن الأساتذة في إجراء الامتحانات وتجاهلت قضيتهم وأخيرا عمدت إلى قطع رواتبهم في عام أزمات بكل المقاييس، فشحذ ذلك إصرار الأساتذة وقوى عزائمهم وازدادت قرائحهم صفاء وثراء ومما أنشد بعضهم:
يا راتبا صان الكرامــــة والإبا منا السلام على سهولك والربا
ذقنا بفقدك بعد طــــول مذلــــة طعم الكرامــــــة ما ألذ وأطيبا
نم يا رويتب في الخــزينة هانئا فلنحن أكبر حين صرت مغيبا
ولسوف يعلم من أراد صغارنا أنا الألى حازوا الكرامة والإبا
وإلى الذين تخلفــــوا وتخندقوا في صف من في حقنا قد أذنبا
إنا لنعلم أن سيصحو فيــــكم ذاك الضمير وإن تغيب أو خبا
يكبو الجواد وقد ينوء بحمله ويقــــــوم حتما لو تعثر أو كبا
كما أنشد آخر:
ومشفقة تبدي النصيحـــــــة مرة تلين وحينا بالعتــــــاب تعنف
تقول: غريب أمرك اليــوم دخلنا ـ على زهده ـ كنـــا به نتعفف
وتذهب للإضراب تبغي ضياعه فكيف علينـــا بعد ذلك تعطف
فقلت لها: إن الكــــــرامة عندنا أعز وأغلى والمواقف تشرف
ويومها كانت بوادر أزمة سياسية تلوح في الأفق، برز فيها برلمانيو الأغلبية منقلبين على رئيسها، وكانوا يجمعون أقمصة عثمان، فألفوا قضية الأستاذ والتعليم، من أشد الأقمصة تلوثا بالدم القاني، المتحول إلى أسحم داج بعد قطع الرواتب، ولم يعش النظام بعد ذلك إلا 37 يوما.
وهاهم الأساتذة اليوم يجددوون عهدهم مع النضال بعد أن أعطوا رئيس الجمهورية جائزة الضيف ثلاث سنوات لا ثلاثة أيام من التهدئة المخللة برسائل قصيرة من قبيل الثلاثة أيام، وبعد أكثر من عامين على التقاء قادة النقابة برئيس الجمهورية وبوزيره الأول في لقاءين منفصلين وخروجهم من عندهما بوعود صيرها وزير الدولة للتهذيب ووزيرة الوظيفة العمومية مواعيد عرقوب.
لم يجدد الأساتذة هذا العهد مع النضال وبهذا المستوى إذن إلا بعد طول صبر وإعذار ورسائل تجاوزت العشر كان آخرها الرسالة المضمنة إخطارا بالإضراب الذي يوقع الأساتذة ألحانه العذبة الخالدة هذه الأيام، وبدلا من التفاعل الإيجابي مع هذه الأنغام النضالية، واستيعاب رسائلها البينة بيان القمر ليلة البدر لا تحجبه غياية ولا سحابة ولا خسوف، والتي يستوي في قراءتها القارئ والأمي كما يقرأ كل مؤمن كفر الدجال، عوضا عن كل ذلك، تكتب الحكومة في أيامنا هذه ذات السيناريو التراجيدي السيئ الحبكة الرديء الإخراج، فوجهت العريضة المطلبية إلى سلة المهملات وأنفقت المبالغ الطائلة لتعويض الأساتذة المضربين، كما سلبت بعضهم من امتيازات مستحقة، وقدمت الامتحانات خاصة في انواذيب حيث يوجد الرئيس اليوم والفصول خاوية من الأساتذة عامرة ببلطجية الحكومة، بعد شديد الضغط على الأولياء لإحضار التلاميذ أمس واليوم خاصة.
وبهذه المناسبة نجدد التحايا والتهانئ لأساتذة انواذيب الذين كانت لا فتتهم ترفرف شامخة تفرض نفسها على الرئيس ومرافقيه مجلجلة كأصواتهم النضالية المدوية، مما اضطر الرئيس إلى أن يقول: رأيتها رأيتها..
واستكمالا للتراجيديا تدل المعلومات المسربة على اعتزام الحكومة قطع رواتب مئات المضربين حوالي 630 أستاذا مغطية على مئات أخر، لكي لا تظهر نسبة الإضراب الحقيقية، وبذلك تكون هذه الحكومة سلكت سنن حكومة 2008 في تعاملها مع الأساتذة شبرا بشبر وذراعا بذراع.
ولا يخفى أن بلادنا اليوم تعيش أزمة سياسية قد لا تكون أقل حدة من تلك التي عاشتها سنة 2008 وحتى لا تشبه الليلة البارحة تماما، فإننا نقترح على رئيس الجمهورية الإجرءات الاستعجالية التالية:
1ـ الكف عن رواتب الأساتذة حتى لا يسري سمها الناقع في نظامه، كما سرى في نظام غيره فكما يدين المرء يدان، وحتى لا يفخر وزير لغيره بردها كما فعل وزير له ذات يوم.
2ـ استبعاد العجزة الذين تنحصر كفاءاتهم في التملق وتلبيس الحقائق والذين مازلنا نرى أنهم من حال دون وفائه بتعهداته، ونرجو أن لا تؤكد لنا الأيام أنهم مجرد منفذون لقراراته وتوجهاته، وأن إعراضهم عن تنفيذ بعض أوامر فخامته إنما هو من فقههم بقرائن الأحوال.
3ـ تلبية العريضة المطلبية وخاصة المصادقة على نظم أسلاك التعليم الثانوي وتطبيقها وزيادة الأجور، وذلك بالأفعال لا مزيد الأقوال.
بقي أن نشير إلى أن التعليم غاب جملة وتفصيلا من جميع الأرقام التي قدم رئيس الجمهورية في خطابه الطويل للمواطنين من خلال سكان انواذيب، فما دلالة ذلك؟ وبم يسمى؟
وختاما أتمنى ألا يظل وزراء التهذيب في أنظمتنا المتعاقبة علب أباندور، أو عطور منشم.