بقلم : سيدي محمود ولد الصغير
[email protected]
ما زلت منذ بعض الوقت أرجئ الكتابة عن شيخي ومعلمي الكبير رحمه الله ؛ في انتظار الفرصة الملائمة لكتابة تليق برجل عظيم من خيرة رجال هذه البلاد ؛ علما وعملا وزهدا وقيادة وريادة ، وتضافر خصال ، رجلٍ ترك بصمة كبرى في حياة أجيال متتالية من أبناء هذا البلد قامت على أكتافهم كثير من جهود البناء والإصلاح في مختلف قطاعات الدولة وزوايا الوطن .
ومع تشجيع بعض الأصدقاء من طلبة الشيخ ومحبيه ، وازدياد الشعور بالحرج – أمام الذات – من التأجيل قررت أن أكتب شذرات من سيرته العطرة على شكل سوانح وذكريات تبرز جوانب من صفاته وجهوده حسبما تسعف الذاكرة – بإذن الله – آملا أن يكون في نشرها وإتاحتها ما يشحذ الهمم ويربي النفوس ويضرب المثل الصالح ويبرز القدوة اللازمة ، ولمثل ذالك كتبت سير الأعلام ودونت معاجم الرجال .
وفي حديث الذكريات مندوحة عن الكتابة العلمية بضوابطها الملزمة ، على أهمية ذالك بل ضرورته ، وهو ما أرجو أن ييسره الله على يدي ، أو يد غيري من طلبة الشيخ الأبرار .
تعريف عند البدء
لا بد قبل الدخول في الذكريات من الإلمام بشيء من التعريف بفضيلة الشيخ في كلمات يسيرة تحتاج إلى تفصيل وبسط لا تناسبه هذه المقالة الموجزة فأقول :
هو فضيلة الشيخ العالم العابد الزاهد الثقة الورع المصلح المنفق : محمد بن اجَّ بن حَبَدِيَّ الشريف الجكني ، من أعلام ولاية لعصابة الذائعي الصيت عاش فيما بين العقد الثاني من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي حيث وافته المنية في يوم من أيام الله منتصف شهر إبريل من عام 2004 م .
اشتغل منذ فجر شبابه بالعلم والتعليم واشتهرت محظرته في المنطقة حيث تخرج فيها المئات من طلبة العلم وحفظة كتاب الله عز وجل من أبناء الولاية ، وغيرهم ممن أمُّوا المحظرة من كل حدب وصوب ، (ومن غير الموريتانيين أحيانا ) .
وقد استمرت تحت إشرافه المباشر ما يربو على خمسين سنة متنقلة بين مناطق لعصابة أيام الترحال وانتجاع الكلإ ، قبل أن تستقر ردحا من الزمن في مدينة (انتاكات ) – على بعد 10كلم تقريبا من مقاطعة كرو – تاركة هناك سفرا من الذكريات العاطرة ، يرويها أهل البلدة ويحدث عنها النخل الحزين ؛ يوم أن ودعها الشيخ – وأهلها كارهون – مستقرا به المقام مع مطلع التسعينات من القرن الماضي على مقربة من عاصمة ولاية لعصابة (كيفه ) – على مسافة تقل عن 10 كلم – متخذا هناك موطنا خاصا سماه (بدرا ) تيمنا ، عاش فيه عقدين وبضع سنوات من الزمن ، يصل ليل القيام بيوم التدريس وخدمة الناس رغم تقدم العمر ومحدودية الوسائل وقساوة البيئة ضاربا المثال في مضاء العزيمة وقوة الإصرار والانشغال بالهم الكبير
قبس من حياة مضيئة :
بما أن دافع الكتابة عن الشيخ رحمه الله هو الحرص على الإسهام في إبراز قدوات للجيل الحاضر والأجيال الآتية ، ومكامن الاقتداء هي الجوانب الممكن تكرارها وإعادة إنتاجها ، وبالتالي هي الصفات – أو بعضها – والمواقف المتصلة بتلك الصفات ، فإن علي في هذه اللمحات السريعة أن أقف عند بعض صفات الشيخ ، مؤثرا في مساق الإيجاز أن أجعلها في ثنائية متقابلة هي الصفات العلمية ، والعملية .
أولا : الصفات العلمية :
1- الرجل القرآني :
كان الشيخ رحمه الله تعالى من فقهاء المنطقة المعدودين ؛ ممن يرجع إليهم في النوازل ويُذْكرون عند التباس الأحكام ، ولكن الجانب الأبرز في شخصيته العلمية كان هو الإتقان المنقطع النظير لكتاب الله عز وجل حفظا ورسما وضبطا ومقرأ وقد لزمتــُه سنين عديدة وأخذت عنه القرآن مرتين : ابتداء وتكرارا (الذِّهابة والسَّلْكة ) فلم أره يوما من الأيام يشك في كلمة من كتاب الله عز وجل لينظرها في المصحف مثلا ، وما زلت رغم مرور عقود من الزمن على تلك الذكريات في عجب من قوة حفظه لكتاب الله عز وجل ، فقد كنا نتحلق حواليه على الدواة ونحن يومئذ طلاب كثير وهو يملي على كل منا درسه (كِتْبَتَه ) ، من الموضع الذي هو فيه من كتاب الله تعالى ، وما أذكر أنه طلب من أحدنا يوما أن يقرأ له شيئا قبل موضع استملائه بالضبط .
وشأنه في طلاقة اللسان بالقرآن عجيب ، وقد كنت أظن وما أزال أنه كان يختم القرآن ختمة كاملة خلال كل يوم (في الأحوال العادية ) موزعة بين تهجده بالليل ونوافله بالنهار .
2- علمي معي :
ولو أردت صفة علمية جامعة لصفات (طالبن ) – كما كنا نكنيه – رحمه الله لكان البيتان الذائعان من شعر الإمام الشافعي أنسب وصف للتعبير :
علمــــي معي حيثما يَمَّــمْتُ يــــتبعني قلبـــي وعاءٌ له لا جوف صـــندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
فقد كان الشيخ يقوم بمهامه العلمية الكاملة في سائر الأحوال قائما وقاعدا وماشيا وراكبا ، وفي الحضر وفي السفر وفي حال الفراغ ، والشغل ؛ ولا شغل يعلو على شغل التعليم .
وهكذا تطَّرِد صفة الاستغناء التام عن المراجع المساعدة ساعة التدريس في أغلب ما يدرسه الشيخ من العلوم- على أنه ذو نهم في القراءة أوقات الفراغ – .
3- قوة الاستحضار والملكة :
وهذه الصفة متفرعة عن الصفة قبلها فقد تحولت العلوم التي يدرسها الشيخ إلى ملكات يمارسها بيسر وسهولة مع استمتاع ونشاط ، فمثلا حينما يمسك الشيخ لوحا لنقد مستوى تمكن كاتبه من الرسم أو الضبط (اشكارة ) لا يلبث في يده إلا يسيرا وإذا هو يأخذ مؤخرة القلم ليكتب بالخط العريض في أسفل اللوح الكلمة الخطأ إن وجدت (وهي الكلعة 1) أو يوشحه بما يناسب من نظم متشابه القرآن (دركه1) بخط متجانس أنيق ، ولو أن بجانب الشيخ تلميذا يعرض حفظه (يعرظ صُراتُ ) وحواليه كثير من التلاميذ كل منهم يقرأ لحاله ، لما كاد أحد منهم يقع في خطأ دون أن ينتبه له الشيخ ويصوبه (وما كان عطاء ربك محظورا ) ! .
ثانيا : الصفات العملية
لعل هذا هو الجانب الأكثر إشراقا في حياة شيخنا المبارك – صب الله على قبره شآبيب رحمته ورضوانه – وإن كان مرتبطا ارتباطا عضويا بما قبله ؛ لأن العمل نتيجة العلم وثمرته .
وأهم الصفات العملية التي لا تخطئها حاسة الرصد في حياة الشيخ مهما كان مستوى النباهة هي – في جانبي الفعل والترك : (الإيجاب والسلب) – ما يلي :
1- الاستمرارية وطول النفس :
فقد كان الاستمرار مفتاحا أساسيا من مفاتيح حياة الشيخ رحمه الله ، سواء أتجلى في المداومة على العبادات التي يعتادها أم في التعليم والبرنامج اليومي أم في الخدمة والقيام بشئون الناس ، وإن كانت بعض هذه المتضَمَّنات تحتاج إلى إبراز خاص .
2- العبادة الدائمة :
والعبادة عنوان يستغرق حياة الشيخ بتفاصيلها المختلفة لا تكاد تند منها عنه شاردة ، وبعض تلك العبادات يحتاج إلى توقف خاص .
قيام الليل :
كان الشيخ بحق أحد المجلِّين في حلبة مدرسة الصالحين (قيام الليل ) فقد كان ينام مبكرا بعد الفراغ من ضروري الشغل ، آخذا لنفسه بنصيب من راحة البدن ، حتى إذا جنح الليل للانكسار نهض فقلب – مع طلابه – أثير المكان إلى تراتيل تمزق سكون الليل ! .
ولا أنسى تلك الليالي التي كان يوقظنا فيها مناديا بأسمائنا – أو أسماء بعضنا – وهو يتجهز للصلاة ثم يصفنا أمامه للقراءة – في الفضاء الطلق تحت النجوم – على شكل نصف دائرة يقف في منتهاه ثم ينصب بيننا وبينه سترة ، ويبدأ التهجد ، في قراءة طويلة ، مهيبة ؛ يفتتح سورة البقرة فيقرؤها ، ثم يفتتح آل عمران فيقرؤها ثم يفتتح النساء فيختمها ، ثم يفتتح المائدة فيختمها ، ثم يفتتح الأنعام فيختمها – وحسبك الأمثلة – يقرأ بصوت بادي التأثر والتأثير ، لا تخطئ في ثناياه نشوة الالتذاذ بكلام الله سبحانه ، (كأني أستمع إليه الآن ) !، يجهر من بعد إسرار ، ويُسِرُّ من بعد جهر يراوح بين الحالين في مشهد لا أشبهه منذ ذالك الحين إلى اليوم إلا بفعل السَّباح الماهر حين يغطس في الماء من نقطة معينة فيغيب برهة لينبثق من مكان بعيد ! .
هكذا كان رحمه الله حين ينتصب للقراءة والمناجاة في تلك الليالي المقمرة على (ذراع ) المدينة الوادعة (انتاكات ) فوق وادي النخيل الممتد – حيث فتحت عيني على هذا المشهد لأول مرة – يقرأ من بداية سورة البقرة بصوت مسموع – أحيانا- مع ارتياح ظاهر حتى يصل – مثلا – إلى قوله تعالى : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ) يمد بها صوته ، ثم يُسرُّ تحسبه ساكتا وهو يقرأ ، فإذا انقضى ثلث ساعة أو نحوه – تقريبا- رفع صوته في حماس بقوله تعالى : (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) يمد بها صوته ، وهكذا .
يتخلل قراءته الركوع والسجود وتفقد الطلاب ، وقد يميل على أحدهم بعصا التأديب لأنه منذ وقت ما زال يقرأ الحزب الذي بدأ به أو الذي يليه ، وتلك أمارة استسلامه للنوم رغم وقوفه الشكلي في قِبلة الشيخ ، ولا أنسى كيف كان بعض الطلاب يحاول أن يحتال عليه من أجل النوم “الرسمي” فيضطجع – على الرمل طبعا – خلف بعض زملائه الذين يتضامون لمساعدته ، وهي أوضاع يصححها الشيخ رحمه الله بين تسليماته من التهجد بالطرق المناسبة ! .
وما يزال الشيخ على تلك الحال ؛ يتعاطاه الركوع والسجود وطول القنوت إلى أن ينصدع الفجر ! .
ألا في الله لا في النّاس شالت بداوودٍ وإخوته الجذوع
إذا ما اللّيل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدّنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلوع
يتواصل في الحلقة القادمة .