ثكلتنا أمهاتنا إن لحق أي تشويه بسمعة “الحراطين”، أو حاولت أي جهة مهما كانت استغلال جريمة “بيرام” بحرقه الكتب الإسلامية، للنيل من مكانة “الحراطين” وشرفهم وعروبتهم وإسلامهم.
جريمة حرق الكتب الدينية، التي تمثل رمز ديننا وعقيدتنا، جريمة نكراء، وسابقة خطيرة، لكنها تسجل فقط ضد فرد أو مجموعة محدودة من فاقدي الضمائر، وتجار النخاسة الحديثة.
صحيح أنه لم يكن لعملاء الصهيونية أن يحلموا بأن تحرق الكتب الإسلامية في عاصمة المنارة والرباط، لكن شاء الله أن يكشف نوايا هؤلاء وأولئك، وأن ينحدروا من على شفا شرف هار، ليقول فيهم التاريخ كلمته.
لم يكن خافيا على أحد، ولا على مثلي خاصة، أن “رؤوس” منظمة “إيرا” هم ربابنة الأشرعة الصهيونية التي ستغرق لا محالة في كثبان هذه الصحراء.
فمنذ 2005، وأنا أدق ناقوس الخطر إزاء أهداف “إيرا” وأصابع الصهيونية التي ترعاها، وتهدهدها في المهد، وقد نشرت في ذلك تحقيقات سياسية مطولة، وتقارير معروفة نشرت في وسائل الإعلام الدولية والوطنية، وتحملت في سبيل ذلك ما تحملت، لأنني كشفت النوايا الحقيقية لهذه المنظمة التي تبث سموم التفرقة وتعزف على النعرات الضيقة وتسعى لتشتيت عرب البلاد على أساس اللون.
لقد كنت أول من كشف اجتماع بيرام في باريس مع الصهيوني “مالك شبل”، وحيث اعترف بيرام فعلا بعد ذلك في وسائل الإعلام بأنه اجتمع بذلك الزنديق، الذي أوكلت له الصهيونية قبل سنوات ملف تخليق “دارفور”، التي لم يكن أحد يسمع بمشكلة فيها قبل ذلك، حيث اندلعت الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس، فضلا عن مهمة تشويه الإسلام عبر العزف على ملف العبودية والمرأة والتقاليد.
كما كشفت مؤخرا اسم ضابط الارتباط الصهيوني، الذي يشرف على تكوين العناصر الخاصة من “إيرا” انطلاقا من مقره في دكار، التي يعمل بها تحت اسم رجل دين مسيحي، وهو الذي كان يعمل ضابطا في الجيش الإسرائيلي و”الموساد”، وتلطخت يداه بدم الفلسطينيين، قبل أن توكل إليه مهمة تعزيز الذراع الصهيونية في غرب إفريقيا.
وليست هذه إلا أمثلة، إذ يضيق المكان عن كل تلك الملفات والمعلومات التي كشفتها في هذا المجال.
لقد تصور البعض وقتها أنني أغالي في هذا الملف، وتعرضت لسيل من الشتائم والكتابات التي تتهمني بأنني أرمي كل من لا يوافقني الرأي بجرم العمل لـ”إسرائيل”، ولو فكروا قليلا لعرفوا أن اتهام الناس بالباطل لا يخدم أهدافي، لكن أولئك الذين قاموا بذلك تناسوا أنني لا أخوض الحروب الشخصية، وأنني مشغول بصراع حضاري أكبر من القامات الشخصية.. والأجر عند الله الواحد الأحد الصمد.
اليوم، وقد انكشف جانب، ليس إلا جانب، مما صنعت له تلك الحركة، حتى بلغ بها الأمر حرق أمهات الكتب الإسلامية.. يجب على الجميع أن يتعالى على الحيّـز الخصوصي لمساحات الجيب والمنفعة السياسية الضيقة..
لا يحسبُ بيرام على الحراطين، ولا يحسب إلا على الذين صنعوه، إنه صنيعة “إسرائيل” والمنظمات المسيحية، التي سعت من خلال طرحه لتحقيق ما كلفت به منظمة “قوات تحرير الأفارقة الموريتانيين” (أفلام) طيلة ثلاثين سنة من تأسيسها والذي فشلت فيه.
أرادت تلك الدول والمنظمات أن تجعل من بيرام وبعض رفاقه “حصان طروادة” لضرب منطقة حساسة من مناطق التلاقي العربي الإفريقي آو تركيع موريتانيا تحت مذبح التطبيع.
لم يسأل أولئك أنفسهم من أين لـ”بيرام” كل الأموال التي ينفقها على رحلات السندباد ليل نهار متنقلا بين عواصم ومطارات العالم وفنادقه، حيث غرف الأحلام التي تكلف في الليلة الواحدة آلاف الدولارات. ولم يسألوا أنفسهم عن سبب الجوائز والأوسمة التي تغدق عليه ليل نهار من منظمات الغرب، التي لم توشح الأبطال الحقيقيين لمحاربة العبودية مثل مسعود ولد بلخير، وولد ورزق، وولد الحيمر، وأحمد ولد صمب، ومحمد الأمين ولد أحمد، وعمر ولد يالي… وغيرهم..
أمضى هؤلاء الرجال أربعين سنة من النضال في سبيل تحرير الأرقاء والرفع من شأن وضعية شريحة الحراطين.. سجنوا، واعتقلوا، وأهينوا.. وتعرض لشتى الحملات.. لكن أحدا منهم لم يمد يده للمال الأجنبي الحرام.. ورفضوا الدعم الخارجي، لأنهم يدركون اشتراطاته وأهدافه.. فكيف بسيل الأوسمة والجوائز الذي انهمر بشكل مفاجئ، وفي وقت أصبحت فيه كل القوى الوطنية موحدة خلف مبدأ محاربة الرق وآثاره.. أليس الأمر مدبرا..
الآن.. إذا كان “بيرام” قد فعل ما فعل، فذلك شأن عملاء “إسرائيل” وعملائها..
وما هو غير مقبول بأي شكل من الأشكال، وأنا أحذر من فعل لم يقع بعد بل هو مستبعد، هو أن يمتد أي لسان سوء بكلمة إلى الحراطين.
إن الحراطين جزء لا يتجزأ دما ونسبا وتاريخا وثقافة من المجتمع العربي في المغرب، الجزائر، ليبيا، النيجر، أزواد، الصحراء، موريتانيا..
إن الحراطين ليسوا سباقين إلى المعاناة فقط، بل إلى الشهامة والمروءة، وهم من أكثر الشعوب العربية عاطفة دينية وأكثرها سبقا للخيرات والبر والتراحم، فلم يسجل في التاريخ أن حرطانيا واحدا دخل المسيحية، ويعلم الجميع أن هذه الشريحة تحملت المعاناة لعدة قرون لكن ذلك لم يغير شيئا في دينها وعروبتها ووطنيتها وحبها لمجتمعها.
إن الحراطين هم الذين بنوا موريتانيا طوبة طوبة، وحفروها بئرا بئرا، وزرعوا بذرة بذرة، وعبدوها شارعا شارعا، وماتوا في سبيلها دفاعا في حرب الصحراء والحرب الجارية ضد الإرهاب.. وماتوا بسبب هويتهم في أحداث 89، حيث تم شيهم في أفران الشواء في المدن السنغالية، وتصدروا كافة الأعمال الوطنية وصبروا على كل المعاناة والألم والتهميش وظلم ذوي القربى، وما زادهم ذلك إلا حبا لدينهم ومجتمعهم وثقافتهم وحضارتهم العربية.
إن الحراطين هم قلب العروبة النابض في هذا الثغر الأغر من ثغور الوطن الكبير، وهم فخر العروبة وتاج الإسلام،… ألم يقم الحراطين في السنغال هذا العام بتشكيل “روابط البيظان” وطالبوا بتدريس لغتهم العربية.. ألا يعيش أولئك الحراطين في السنغال منذ قرون في مجتمع زنجي، فهل تخلوا عن الحسانية، أم تخلوا عن دينهم أم عن أخلاقهم.. وهم الذين يشكلون قرابة 18% من سكان السنغال رغم أن أي بواب لم يعين منهم منذ استقلال السنغال وإلى اليوم.
دعونا نكون صريحين قليلا: أليس الحراطين أمهاتنا وأبناؤنا وأخوالنا.. هل توجد أسرة عربية بيضاء ليس لها نسب من الحراطين حتى باتوا يعرفون ب”الأخوال” منذ قرون وليس من اليوم.. أليست النسبة الأكبر من الحراطين هم أبناء “البيضان” شاؤوا الاعتراف بذلك، أم رفضوه بفيتو التقاليد البالية.. من جاء بالحراطين من الأندلس واليمن والمغرب، من كان يتاجر بالعرب السمر فيخطفهم من المغرب ويبيعهم في موريتانيا.. من خطف جد أبريكه ولد أمبارك من المغرب وباعه في أطار ليشتريه المرحوم همدي ويحرره.. أين المجموعة العربية في التاريخ التي ليس من بينها سمر أحرار وعبيد، أليس نصف “البيضان” سمر البشرة وهم من أسر وقبائل معروفة.. وقبل ذلك ألم يكن من الحراطين علماء وشعراء ودعاة ومجاهدون ومقاومون عبر التاريخ حتى وإن لم يحظوا بالمكانة التي كان يجب أن يحظوا بها..
إن الذي يزايد على عروبة الحراطين أو يشكك في إخلاصهم لهذه العروبة مجنون معتوه، بل هو العدو الأول للعروبة والإسلام.
إن الحراطين جزء لا يتجزأ من حضارة “البيظان”، من نسبها، من ثقافتها، من أخلاقها، من هويتها من لغتها.. بل هم روحها وجوهرها ولا مصير للعروبة في هذا البلد إلا بالحراطين، وهم بيضة الإسلام ومنعته وأشياعه الأوفياء.
فإذا تصرف معتوه منبوذ من هذه الشريحة أو من غيرها، فيجب أن لا يحسب ذلك على المجتمع ولا أي من شرائحه. أحرى هذه الشريحة التي عضت بالنواجذ على دينها وعروبتها ورفضت إغراء الغرب المسيحي ومنظماته وتنظيماته.
من ينس أن الرئيس مسعود ولد بلخير كان المرشح الوحيد الذي يدمج في برنامجه الانتخابي قطع العلاقات مع “الكيان” الصهيوني في حين كان بعض المرشحين الآخرين يتبجح بـ”علاقة العار”.
من ينس أن الرئيس مسعود رفض استغلال ملف الأقليات، ورفض الدعم الخارجي طيلة العقود الماضية، وظل وفيا لمبادئه ووطنه وشعبه.
من ينس المناضلين الأوفياء: اسغير ولد العتيق، أحمد ولد صمب ولد عبد الله، بيجل ولد حميد، ابركيه ولد مبارك، ببوكر ولد مسعود، بنت سمت، مريم بنت بلال، محمد سالم ولد مرزوق،… الذين ناضلوا من أجل محاربة الرق، الذين لم يأكلوا أوقية واحدة إلا من أموال دولتهم ومجتمعهم.
إنني امتلئ فخرا واعتزازا بأن أي حرطانية، حتى غير المتعلمة، أفصح في نطق لغتها العربية من نساء العراق والمغرب ولبنان..
وإنني اعتز بمشاركتي في تلك الجهود، التي تجري وراء الستار من طرف نخبة محدودة، وليست للاستعراض أو صناعة الشهرة، وستدفع تلك الجهود يوما ما بحرطاني ليكون أول عربي أسمر يحكم البلاد، ويومها ستعرفون أن العرب السمر أكثر شراسة وإخلاصا وجرأة في الدفاع عن عروبتهم وهوية بلدهم.. وليسوا أقل شأنا من 80 مليون عربي أسمر في باقي أقطار الدول العربية.
أخيرا كلمات موجزة:
أولا: إلى الأبرياء في “إيرا”، أتمنى عليكم أن تكونوا على مستوى اللحظة، وتعلنوا موقفا واضحا، ليتحول خطكم إلى خط حقوقي حقيقي يخدم الشريحة المظلومة، ويتخلص من تبعات طريق الجحيم الدنيوي والديني.. فلن يؤدي التبول على قبور العلماء وحرق الكتب الإسلامية إلى طريق المساواة إطلاقا.
ثانيا: على النخبة العلمية والثقافية في شريحة الحراطين أن لا تقبل بعد اليوم بالمزايدة عليها وعلى جهودها من طرف هواة الاسترزاق بالنضال، وأن لا يشغلها خدمة جميع المجتمع عن التركيز على الشريحة الأقل حظا والأطول صبرا.
ثالثا: إلى من يهمه الأمر من الإقطاعيات القديمة: لا يوجد “عرب درجة ثانية”، يوجد عرب فقط، إما أن يكون البعض صريحا مع نفسه أو يتجاوزه التاريخ.