نواكشوط ـ يعقوب ولد باهداه
من بين لوحاته المتناثرة التي تكاد تنطق حياة وجمالا وحبا يُـلقي أحمدو ابتسامته الفطرية الحالمة… العالم بالنسبة له فضاء جميل رغم كل شيء مادام فيه من يفهم حديث الريشة. وحديثه هو الذي تشع به عيونه..و يداه. رغم أنه لم يسمع يوما كلمة من شفاه آدمي ولم يحظ بأن يُـسمع صوته لأي كان….كهذا كانت إرادة القدر.
لم تكن إعاقته لتقف في سبيل تحقيق حلمه، وهو أن يفهمه العالم، كما هو وكما يريد أن يكون لا كما كان يفترض أن يكون…وفي مساره الطويل مع الحياة حافظ أحمدُ ولد عثمان ولد سيدي أحمد بقوة على شحنة الأمل الذي راوده منذ نعومة أظافره.
رأى النور عام 1981.. وكان العالم قد عرف حينها نهضة حقيقية في التعامل مع ذوي الاحتتياجات الخاصة، ومن ضمنهم الصم، لكن بلاده لم تصل حتى الآن لذلك النضج في التعامل معه ورفاقه، رغم مضي 28 عاما.
بدأ مشواره مع الدراسة في المغرب سنة 1987 قبل أن يشد الرحال مع عائلته إلى ليبيا سنة 1990، التي واصل فيها مساره الدراسي لغاية الاعدادية، حيث تعتمد الجماهيرية الليبية أنظمة تعليم مخصصة للصم.
كان يرسم في كل حين، يعيش للفن والجمال، ولم يفارقه حب الريشة وابداعاتها وهي تتداعي من بين أنامله التي اعتاد أن ينجز بها أعمالا ابداعية أخرى.
عام 1999 عاد للمغرب مجددا، واتجه هذه المرة إلى مراكز التكوين ومن أحدها اكتسب خبرة في الحلاقة، سعيا لتعلم مهنة يكسب منها، وبعد خمس سنوات قررت أسرته العودة إلى موريتانيا ، العام الأول من القرن الواحد و العشرين.
أعانه خاله على افتتاح صالون حلاقة، وبدأ العمل بالفعل سنة 2002 لكنه اصطدم بواقع مجتمع لم يعرف في غالبه كيف يتعامل مع حالاته، و لم يرتح المترددون على محله لكونه أصم. ومع صعوبة ايجار المحل، وتناقص الرواد، اضطر أن يغلق صالون الحلاقة مرغما.
حينها لم يتلق أي رد على الشهادات والوثائق التي تقدم بها خاله للجهات الرسمية المعنية سبيلا لتحقيق طلبه الذي ضمنه إياها للحصول على تمويل لمشروع صغير. لكنهم في النهاية أبلغوه أن ملفه ضاع في فوضى الرتابة والبيروقطراطية.
العام 2003 كان بدايته مع التدريس، حيث التحق بالمدرسة الخاصة بالصم الوحيدة من نوعها في نواكشوط، متعاونا معها ومع منظمة silent work الهولوندية، ولم يخف ارتياحه للجو الجديد نظرا لوجوده بين مجموعات من الأطفال الصم يقدم لهم دروسا ويرشدهم، ويعلمهم مما تعلم. ولكنه لا زال يلح في ضرورة اكتتابه رسميا، وزيادة مرتبه ليصل الحد الذي يمكنه من إعالة أسرة والاعتماد عليه كـ”مورد ثابت وحقيقي”. حسب تعبيره بلغة الاشارة، التي تتقن المُدرسة “عائشة” ترجمتها إلى لغة الشفاه، بعد تجربة طويلة لها في الميدان.
لوحاته تنبض بموريتانيا صحراءها وخضرتها… وجوهُ بكل الألوان ومن كل مكان…يؤرخ بريشته لتقاليد وعادات المجتمع، ولأنماط السلوك والممارسات التي سادت. في الماضي والحاضر…تحمل معان سامية، وصورا مفعمة بالرومانسية وبحب الحياة، ولم تعد كما كانت يوما افرازات أفكار لهاو شاب، وإنما أصبحت تحمل مهنية كبيرة، تعِد بمستقبل باهر لفنان تشكيلي رائع. هكذا يقول من اطلع على أعماله من كبار الفنانين التشكيليين.
يحلم أحمدُ ـ وهو يحمل اسم جده السياسي الوطني أحمدُ ولد حرمه ولد ببانا ـ بمستقبل أجمل، يوظف فيه بشكل رسمي، ويفتتح مركزا لتعليم الفن التشكيلي، والحصول على تمويل لورشات متعددة.
وفي حياته الشخصية يخطط أن يُـكـَوّن أسرة ناجحة، وهو بهذا الخصوص لا يخفي رغبته في الارتباط مع فتاة أحلامه التي يؤكد أنها لا تعاني من أي مشاكل، بمعنى أنها ليست من الشابات الصم. ويسعى في حال تحسن ظروفه المادية للاستقلال مع أسرته الآن، وبعد تكوينه أسرته الخاصة. و تضم أسرته شقيقتين تعيشان معه في عالم الصمم. لكنهما تتكيفان مع ذلك العالم الصامت.
وفي انتظار أن تتحقق تلك الأحلام، يؤكد أحمدُ وهو يتجول بين لوحاته أن مشكلة الصم في موريتانيا صعبة، وأنهم يعانون في تعاملهم وتواصلهم مع الآخرين. ويتذكر قصته مع فرقة من الشرطة حين أوقفته ضمن ركاب سيارة أجرة، بسبب مشكلة مع السائق، ورفضت قبول كونه أصما ولا يمكنه الحديث، مستدلين بذلك على وجود هاتف محمول في يده، متناسين أن هناك خدمة اسمها “الرسائل النصية القصيرة”.