رويدا مروه– باحثة في العلاقات الدولية
بيروت، لبنان
لم تكن زياراتي المتكررة للعاصمة “الرباط” تمرّ دون أن أحمل معي في كلّ مرّة “درسا” سياسيا جديدا يضيف للصحافية القادمة من “بلاد الشام” تصورا جديدا عن كيفية ادارة الحياة السياسية – الاجتماعية في أبعد بلد عربي عن “الشام” وعن أكثر عاصمة عربية ظلّ “أهل الساسة” فيها يتحدثون مرارا وتكرار عن “الخصوصية المغربية” و”الملكية الاستثنائية” و”التاريخ النضالي الفريد” ضدّ الاستعمار… وأكثر الزيارات التي جعلتني أتعلم الكثير “عن” و”من” هذا البلد “البعيد” جغرافيا كانت تلك التي استمرت لأيام ترافقت مع بروز حركة 20 فبراير قبل بضعة أشهر والثانية استمرت لأسابيع رافقت الاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد للمملكة…
وللأسف في تلك الزيارتين تأكدت أنّ الاعلام الفضائي العربي هو الأقل قدرة على نقل صور وقصص ومشاهد واقعية تعكس حقيقة الحراك السياسي والجمعوي (المدني) في الدول العربية وأن الصحافي العربي بات يحتاج الى زيارة ميدانية إلى كل بلد عربي كي يعرف حقيقة الحراك القائم فيه وليرسم تصورا واقعيا عن طبيعة ذلك النظام وأدواته وأعدائه و”أنصاره” وتفاعل الرأي العام المحلي والدولي مع أدائه…وعلى الأرجح فانّ وجود فضائيات عربية مملوكة من دول وأنظمة عربية لها أجندات اقليمية واضحة ومتعارضة مع بعضها البعض يجعل أمر فهم ما يحصل في أقصى المغرب العربي أو المشرق العربي أو الخليج العربي أمرا في غاية الصعوبة اذا كنت تنتمي الى الضفة الاخرى من العالم العربي…
ولأنّه ليس للموضوع المثار هنا علاقة بمناقشة مسار حركة ” 20 فبراير” كحركة احتجاج شعبية شبابية نشأت على المواقع الاجتماعية الالكترونية كسائر حركات الاحتجاج العربية منذ قيام ما سمي “بالربيع العربي” وبرغم الاختلاف في شكل وآليات عمل حركة” 20 فبراير” مقارنة بحركات الاحتجاج الشعبية الأخرى في الدول العربية من حيث شكل التكتلات والتحالفات التي حصلت داخل هذه الحركة المعارضة ومن حيث طبيعة ادارتها لمسيرات الاحتجاج وشكل انتشارها داخل مدن ومناطق المملكة وصولا الى مصيرها اليوم بعد توافق المغاربة على دستور جديد كانت الحركة قد دعت الى مقاطعة التصويت عليه… ولأنه ليس المجال هنا للحديث عن مستقبل المغرب في مرحلة ما بعد الدستور الجديد مع دخول العام الثالث عشر لترّبع الملك محمد السادس على حكم البلاد… فانّ ما يهمّ صلب الموضوع هنا هو ما كنت اراه دائما في كل زيارة للمغرب وهو ما يسمى “بالمعطّلين” أي “العاطلين عن العمل من حملة الشهادات الجامعة” والذين يصعب ان يمرّ عليك زيارة للرباط دون ان تراهم أمام البرلمان في وسط المدينة او في احدى الساحات في مدينة مغربية أخرى خارج العاصمة….
في كل زيارة كان يدفعني الفضول الصحفي أن أكتب مقالا عن حراك هؤلائ ونضالهم للحصول على فرصة عمل حكومية او على الأقل أن يساعدني وضعهم على فهم آلية تعاطي النظام السياسي و”عقلية” الحكومة الحالية في المغرب مع الملف الاقتصادي المعروف انه يعاني أصلا من معضلة كبيرة هي أزمة البطالة في هذه “المملكة” ذي “الموقع الشراكي المتقدم مع الاتحاد الاوروبي و”الطامح لتكريس اتحاد مغارب عربي” قوي بعد حلّ مشاكله “الشمال-افريقية” مع جيرانه العرب سيّما الجزائر وليبيا…لكنني مع ذلك كنت أتسائل مدفوعة بحسّ شبابي ينبض بالجماس للعمل والتقدم الشخصي قبل أن أسير بالحسّ الصحفي لديّ: ألا يوجد “معطلون في العالم العربي كلّه؟…أليس هناك من اصوات بل ملايين الاصوات لشباب عرب من حملة الشهادات الجامعية الذين ينتظرون فرص العمل منذ عقود وسنوات؟ هو ما تعوّدنا سماعه مثلا في السينما والدراما المصرية ب”الانتظار اللانهائي لجواب القوى العاملة”… وكنت أطرح تساؤلا آخر وهو لما يتظاهر هؤلاء “المعطلون” في المغرب منذ فترة طويلة (تعود الى ما قبل بروز شيء يسمى ب”الربيع العربي” و”حراك الشارع”) ولم يقوموا بأي مبادرة عملية لتحسين أوضاعهم؟… ولما وصل بهم الخيار وبسبب تجاهل مطالب الحكومة لمطالبهم لاقتحام مقر وزارة الثقافة وقد سبقها تصرفات شغب مشابهة منذ أشهر طويلة؟…والنتيجة كانت دائما “لا جواب” سوى “وعود رنّانة”!!!…
ذات مرة سمعت من شابة مغربية من حملة الشهادات العليا والتي أخبرتني أنّها استفادت من وظيفة حكومية عبر الانضمام للحركة الوطنية لهؤلاء “المعطّلين” والتي كانت في كلّ مرّة ينزلون فيها الى الشارع تذهب برفقتهم وتجلس في القمهى المجاور للبرلمان في الرباط منتظرة انتهاء الوقفة الاحتجاجية لهؤلاء… بطبيعة الحال لا تمثّل هذه الفتاة “القصة الكاملة” للمعطّلين والا كان الامر افتراء على مطالب شعبية محقة لهؤلاء الشباب… ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا فعل هؤلاء الشباب طيلة أشهر وأعوام من الاحتجاج بانتظارا الوظائف الحكومية والتي ربما تأتي وربما لا؟ هل شغلوا وقتهم بتدريبات عملية تضيف الى سّجل خبراتهم حين يتلقون فرصة العمل التي يطالبون بها؟ وهل لجأوا للقطاع الخاص كبديل مهم و”ممكن” عن القطاع العام؟ وهل جاء حراكهم الاحتجاجي ضمن مسار جمعوي (مدني) كان يمكن ان يحمل مقترحات أثر تنظيما وفائدة في ما لو كانوا قد أطّروا أنفسهم في جمعيات ومنظمات تعمل على تعزيز فرص تشغيل الشباب من خلال برامج واقعية تقدم كحلول للوزارات المعنية بالأمر؟…أم أن خيار رفع مطلب التوظيف في وجه الحكومات كان الخيار الأسهل لهؤلاء؟…علما ان في كل بلدان العالم وليس العالم العربي فقط أزمات كبرى يعانيها الشباب بسبب غياب فرص العمل وتفشّي البطالة…
يأخذنا “المثال المغربي” هنا الى المثال العربي عموما والى “الأسطوانة” التي نسمعها منذ ما قبل سقوط أنظمة مصر وتونس وصولا الى بلدان أخرى مازالت فيها الانظمة تتهاوى واخرى صامدة… وهي “معزوفة” غياب فرص التوظيف الحكومي أمام الشباب لا سيّما الخرّيجين الجدّد مع العلم أن هناك دول خليجية غنيّة بالثورات النفطية يعاني البعض منها من ازمات اقتصادية في مجال التوظيف… واستعمال مصطلحي “معزوفة” و”أسطوانة” هنا ليس من باب “السخرية” من قضية مهمة بل من باب وصف الحالة بأنّها تتكرر على مسامع الجميع دون أي تغيير أو مسعى جدّي من الشباب أنفسهم لتغيير واقعهم في وقت اكتشف فيه هؤلاء الشباب العربي أنفسهم ان حكوماتنا العربية والعديد من الأنظمة العربية لا يعوّل عليها كثيرا في التغيير السريع والتنمية المستدامة…
قبل أسبوع ذكر موقع ال”بي بي سي” على الانترنت نقلا عن منظمة العمل الدولية أن نسبة البطالة بين الشباب والذين تتراوح أعمارهم بين 15- 25 عاما قد وصلت الى أعلى مستوياتها حيث ان حوالي 80 مليون شابا كان عاطلا عن العمل في عام 2010 في حين تعدّ المنطقة العربية والتي مازالت تشهد انتفاضات من بين أكثر المناطق تضرّرا ببطالة الشباب كونها تتمتع بقاعدة شبابية واسعة مقارنة بالدول الأوروبية التي تعاني من شيخوخة سكانها في وقت تشير فيه الاحصائات الى أن نحو 70% من مواطني الدول العربية هم من الشباب تحت سن الثلاثين…. ولسنا بحاجة للأرقام المحدّثة باستمرار حول قاعدة الشباب في العالم العربي المعروف عنها منذ عقود بأنها الأكبر ولكن ما يلزمنا معرفته هو ماذا فعل الشباب أنفسهم لأنفسهم؟ وماذا تغيّر فيهم من أجل إيجاد حلول ومخارج لهذه الأزمة الاقتصادية التي تفتك بهم وبعوائلهم ومستقبلهم ومستقبل بلدانهم؟…
قبل “الربيع العربي” الشهير كان الشباب العربي يطالبون ويناشدون بإعطائهم فرص أكبر ومساحة اوسع للمشاركة في الحياة السياسية في بلدانهم ولم يجدوا آذانا صاغية من لانظمة التي كانت قائمة لعقود.. لكنهم وجدوا مع نهاية العام 2010 بابا جديدا أوجدوه بانفسهم وهو باب “البوعزيزي” والقائم على التضحية بالذات لأجل “فرصة تغيير” تلوح في الأفق… ولكن ماذا فعلوا لتغيير واقعهم الاقتصادي؟… وهل فهموا أنّ “حقوقهم الاقتصادية” يجب أن ينالوها بطرق مختلفة عن رفع الشعارات واقتحام قرات حكومية وافتعال أعمال شغب؟… وهل هناك من مجتمع مدني وّجه لهم خطابا بضرورة قيامهم بمبادرات لتفعيل آليات جديدة ووضع مشاريع مقترحة وافكار نهضوية تسعى الى الضغط على الحكومات القائمة لتفعيل سياسات جديدة لايجاد حلول للبطالة شرط أن يعي الشباب ان أنه ليس مطلوبا منهم فقط مطالبة الحكومات بتغيير سياسات التوظيف بل المطلوب منهم ان يضعوا تصورات ويتقرحوا مشاريع وافكار لتغيير واقعهم بدل الالجوء “للسلبية” في رفع شعار “أنا معطّل، وأين أنت يا حكومة؟!”..
اعتبر الشباب العربي في كل حروبهم الالكترونية على لأنظمة القائمة والتي أوصلتهم الى حروبهم الميدانية في الساحات والشوارع والأزّقة ان الاستسلام امام جرائم الانظمة وقمعها وفسادها هو عار وضحوا بأجسادهم واورواحهم ومصالحهم فداء لفرصة التغيير في زمن الثورات العربية…ولكن ألم يحن الوقت ليعتبروا ان الاستسلام الى مشاكلهم الاقتصادية والبطالة جبن وضعف ايضا؟… قد يزعج الكلام البعض ولكن مراجعة واقع حال العديد من الأمثلة الشبابية الواعدة من حولنا والتي حققت الكثير في السياسة والابداع والفن والاقتصاد والتعليم (وهم كثر) ومن مختلف الدول العربية تجعلنا نصدّق ان تغيير واقع “المعطّلين” في العالم العربي ممكن من خلال سياسة جديدة مختلفة عن سياسة رفع الشعارت في الساحات وانتظار فرصة “خجولة” تأتينا من تلك الادارة الحكومية او تلك الجهة الحكومية…