كنت جالسا في مكتبي يوم الجمعة الذي صادف انطلاق ما بات يعرف الآن بحركة شباب 25 فبراير, وبينما أنا أتصفح بعض المواقع الالكترونية إذا بأحدها يورد الخبر التالي: “عاجل : آلاف الشباب يتجمعون في ساحة بلوكات لبدء احتجاجات متواصلة للمطالبة بإسقاط نظام ولد عبد العزيز”
أدرت البحث وفتحت موقعا آخر فإذا به يكتب في نفس السياق: “عاجل: عشرات الشباب يتجمعون بساحة بلوكات مرددين شعارات تطالب بإصلاح النظام“
كلا الموقعين نسبا الخبر لمراسليهما الموجودين في عين المكان فكان ذلك محيرا.. لأن بين الآلاف والعشرات فرق كبير كما أن هناك فرقا أكبر ما بين المطالبة بإسقاط النظام والدعوة إلى إصلاحه.
قلت في نفسي لعل فرق التوقيت كان السبب وراء اختلاف قراءة المراسلين لما يجري في الساحة لكني فوجئت بأن الفارق الزمني بين نشر الخبرين لا يتعدى ثلاث دقائق وهي فترة زمنية يستحيل أن تتغير فيها المعطيات بهذا الشكل.
إن لمهنة الصحافة قواعد وأخلاقيات يجب أن يلتزم بها الصحافي مهما كان هامش الحرية المتاح له واسعا أو ضيقا ومهما كانت قناعاته السياسية والأيديولوجية.
فالخبر مقدس ومقيد بالحقيقة والتعليق حر لتهويمه في عالم الرؤى وهنا يبدو التشابه الذي يكاد يصل حد التطابق ما بين صحافتنا الخصوصية وزميلتها العمومية.
ما نحتاجه هو صحافة تنموية لا صحافة مسيسة:
إنهما توغلان في المبالغة سلبا أو إيجابا أثناء نقلهما للأحداث وذلك حسب أجندة كل منهما كما أنهما توغلان في التسيس وهو ما لا يحتاجه بلد كموريتانيا مازال الهم الشاغل لأغلب سكانه البحث عن لقمة العيش وعن الدواء و العلاج وعن التعليم والتثقيف وعن محيط بيئي موات للعيش لنا ولأجيالنا القادمة.
وهنا قد يجادل البعض بالقول إن المجتمع الموريتاني مجتمع مستهلك للسياسة بطبيعته ولكن الرد على ذلك هو أن الموريتانيين يستهلكون أيضا اللحوم والأسماك والخبز والأرز والماء والأكسجين إلى غير ذلك من المواد التي تعتبر من المقومات الأساسية للحياة والتي علينا كإعلاميين مدهم بكل المعلومات والأخبار المتعلقة بها. بعبارة أخرى علينا أن نشكل إعلاما تنمويا يهتم بتفاصيل الحياة اليومية للناس ومشاغلهم ويوريهم كيف ينهضون بحياتهم كما نهض الآخرون من حولهم وما هي حقوقهم وواجباتهم بدل حصر اهتمامنا في تفاصيل الحياة اليومية للسياسيين ومشاغلهم التي لا تنتهي والتي تصب في قالب واحد وهو اتخاذ البسطاء مطية للوصول إلى مناصب سياسية.
إن المتصفح لجرائدنا سواء الورقية منها أو الألكترونية تطالعه نفس الصور ونفس العناوين (مع فارق طفيف في الصياغة) وكلها تتحدث عما قاله هذا السياسي أو ذاك أو هذا المسؤول أو ذاك أو الموقف المتكرر لهذا الحزب أو ذاك أو تعليقه الممجوج على هذه القضية أو تلك.
وسيلاحظ غياب القصة الإنسانية التي يجب أن تشكل محور اهتمام أي وسيلة إعلامية مسؤولة إلا لدى القلة القليلة منها.
تفويت الفرصة الذهبية:
أما وسائل إعلامنا الرسمية فمازال القائمون عليها يعتقدون أنها وجدت لتمجيد القائد ويجب أن تخصص الجزء الأكبر من وقتها للحديث عن حركاته وسكناته وعلى من سلم ومع من وقف ومع من جلس وإلى من أومأ برأسه.
أما الجزء المتبقي من الوقت وهو الأقل فينبغي أن يخصص معظمه للمسؤولين في حكومته كي يعربوا عن طاعتهم التامة وولائهم للرئيس وعن أن كلما يقومون به من حركات وسكنات إنما يأتي طبقا لتوجيهاته وأوامره وهذا يفهم منه ضمنا أنهم ليسوا أصحاب مبادرات وليست لهم أي رؤية ولم يأتوا بخطط عمل للقطاعات التي يديرونها وهم بالتالي ليسوا أهلا للمسؤولية وهذا هو الوجه الخفي للإستخدام السيئ للإعلام.
ويكفي من لا يصدق هذه الحقيقة أن يسأل أي مواطن بسيط عما إذا كان يعتقد أن المسؤول الفلاني يمكن أن يوفيه حقه أو يحل له مشكلته أو أن يطور قطاعه المسؤول عنه وستكون الإجابة عفوية وسريعة: هؤلاء لا يمتلكون أي سلطة وليست لديهم أي صلاحيات.
أما النزر القليل الباقي فهو مقسم ما بين مؤيدي الرئيس من أحزاب سياسية ومواطنين عاديين ليؤكدوا من خلاله ولاءهم المتجدد وأن البلد بلغ ما يحتاجه من رفاه وتقدم على يديه وألا حاجة بعد الآن إلى أي شيء سوى بقائه على رأس هرم السلطة في عملية إعلامية تضليلية تبلغ مداها أثناء الزيارات التي يقوم بها للولايات الداخلية وتشكل مشاريعه التي ربما كان يفكر في إنجازها أولى ضحاياها.
وعندما زار الرئيس مقري الإذاعة والتلفزيون ووبخ المؤسستين الحكوميتين على أدائهما الرديء وأبلغ إدارتيهما بأنه لا يريد “التمجيد والتصفيق” كانت تلك هي اللحظة المواتية للصحافيين كي يتخلصوا على الفور من عقدة الرقابة التي تلاحقهم منذ أمد بعيد بشقيها: الرقابة الحكومية والرقابة الذاتية (L’autocensure ).
كان عليهم أن يفتتحوا نشراتهم الإخبارية في تلك الليلة بأحداث تهم وتمس حياة البسطاء من الناس مباشرة كندرة المياه في الأحياء الفقيرة أو طول طوابير المرضى أمام المستشفيات أو الإستخدام المفرط للحوم الحمراء وما يؤدي إليه من أمراض مستعصية إلى غير ذلك… قبل أن يتعرضوا لزيارة الرئيس ومن سلم عليه عند مدخل المبنى وحديثه إلى المسؤولين والصحافيين وحينها كان الناس سيكتشفون من تلقاء أنفسهم أن شيئا ما قد تغير وكان الرئيس سيرى أن مخاطبيه قد فهموه فعلا وتحرروا من الأغلال التي كانت تكبلهم.
لقد شكك كثيرون وقتها بمن فيهم صحافيون ومسؤولون إعلاميون ومعارضون للنظام بالطبع في صدق نية الرئيس حين قال للإعلاميين إن لديهم كامل الحرية قائلين إن ذلك كان للإستهلاك الإعلامي فقط لكن تصريحات أخرى صدرت عنه وعن وزير إعلامه أظهرت بعد ذلك أن الرجل ربما كان جادا في كلامه وأنه غير راض البتة عن أداء المؤسسات الإعلامية الرسمية وإن كان أحد لا يدري مدى هامش الحرية الذي هو مستعد لإعطائه.
البيان الصادر في أعقاب اجتماع مجلس الوزراء ينشر اليوم:
وسواء ضاق ذلك الهامش أم اتسع في مخيلة الرئيس فإنه لا توجد وسيلة لقياسه سوى استغلال ما أتيح من حرية والتجرد أثناء ممارسة العمل الإعلامي.
غير أنني أخشى أن تكون العقلية المتحجرة لبعض الصحافيين والمسؤولين الإعلاميين هي الصخرة التي تتحطم عليها كل محاولات الإصلاح والتجديد حتى ولو كانت تأتي من أعلى سلطة في البلد.
ويبدو ذلك جليا من خلال تعاملهم مع الأخبار المتعلقة بكل ما يمت بصلة إلى السلطة.
فإذا أخذنا على سبيل المثال التعامل مع البيانات التي تصدر عن اجتماعات الحكومة نجدها مجرد شكلية يتم تعبئتها بنفس الأسلوب منذ استقلال البلاد وحتى اليوم
ومازلت أتذكر أن البيانات التي كنت أسمعها وأنا طفل يقرؤها المذيعون الأوائل هي نفسها التي قرأتها أنا على المستمعين والمشاهدين حين كنت في الإذاعة والتلفزيون أثناء تسعينات القرن الماضي وهي ذاتها التي سمعتها تقرأ يوم الخميس الماضي
والشيء الوحيد الذي تغير فيها هو أسماء الأشخاص وأرقام مشاريع القوانين
المصادق عليها.
إن ما نحتاجه اليوم في هذه الفترة الحرجة جدا هو إعلام مسؤول يعي القائمون عليه دورهم في تنمية هذا البلد والحفاظ على مكوناته ومقومات بقائه ويدركون أنهم أصحاب رسالة تستحق التضحية.
لا إعلاما نفعيا يسعى أصحابه إلى مصالح ذاتية وآنية وليست له أي مصداقية.
ما نحتاجه هو الوصول إلى حرية الإعلام ونضجه.. لا لتحريره من القيم والأخلاق المهنية والموضوعية التي تأسست عليها مبادئ وأخلاقيات السلطة الرابعة.